مركز عربي للأمن الغذائي

مركز عربي للأمن الغذائي

01 مارس 2021
الارتفاع المفاجئ في أسعار الأغذية يفاقم خطر حصول اضطرابات سياسية (Getty)
+ الخط -

أجمعت الدراسات الأمنية والبحوث السياسية على أن اقتران الارتفاع الحاد في أسعار الغذاء مع القمع السياسي والبطالة بين الشباب كان سبباً رئيساً في اندلاع ثورات الربيع العربي في بداية العقد الماضي.

وأظهرت دراسة مسحية أجراها برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة لتقييم الاستقرار السياسي خلال الربع قرن الأخير أن احتمال تجدد النزاعات والاضطرابات السياسية والاجتماعية في خلال عشر سنوات يزيد في البلدان التي تعاني مستويات عالية من انعدام الأمن الغذائي بنسبة 40% مقارنةً بالبلدان التي تكون فيها هذه المستويات منخفضة. 

وتؤكد الدلائل التاريخية أن الارتفاع المفاجئ في أسعار الأغذية يفاقم خطر حصول اضطرابات سياسية ونزاعات كما جرى في مصر (1977)، والمغرب (1981)، وتونس (1984)، والأردن (1996). 

وفي أكتوبر/ تشرين الأول 1988، ساهمت أعمال الشغب ومظاهرات الشباب بشكل غير مباشر في سقوط نظام الحزب الواحد في الجزائر واعتماد إصلاحات ديمقراطية في البلاد. واستقر الرأي على أن الارتفاع في أسعار الأغذية ومعدل البطالة المرتفع لدى الشباب وتدابير التقشف المالي عوامل أساسية لإثارة حركات الاحتجاج والاضطرابات الاجتماعية والثورات. 

وعلى المستوى العالمي، أثارت الأزمة العالمية في أسعار الأغذية في الفترة ما بين 2007 و2008، وأيضاً في سنة 2011 اضطرابات في أكثر من 10 بلدان بسبب ارتفاع تكلفة السلع الغذائية الأساسية المستوردة. 

وأدى ارتفاع أسعار الأغذية إلى أعمال شغب قادت إلى استقالة رئيس وزراء هايتي، جاك إدوارد ألكسيس، في سنة 2008. وفي فنزويلا، تندلع المظاهرات بسبب النقص في الأغذية الأساسية وارتفاع الأسعار منذ 2017.

وعلى مستوى العالم العربي، ساهم ارتفاع أسعار الأغذية في إشعال الحركات الاحتجاجية في نهاية عام 2010 وبداية عام 2011 في تونس ومنها إلى بلدان الربيع العربي الأخرى، ذلك أن جميع بلدان الربيع هي مستوردة صافية للأغذية، وبالتالي تأثر سكانها بشكل كبير بالارتفاع العالمي في أسعار الأغذية عامي 2008 و2011. وترافق ذلك مع مستويات عالية من البطالة، ما أدى إلى زيادة مطردة في كلفة المعيشة وفاقم انعدام الأمن الغذائي.

بعد اندلاع الثورة في تونس ومصر وليبيا واليمن، توقعت مراكز الفكر الغربية أن تنال هذه الدول الحرية والعدالة والفرص الاقتصادية. ومع ذلك، حذرت ورقة بحثية لمعهد الدولي لبحوث سياسات الغذاء الأميركي في سنة 2012 من أن التجارب من مناطق العالم الأخرى تُظهر أن البلدان التي تمر بمرحلة انتقالية معرضة بشدة لخطر الدخول في صراعات، والتي غالباً ما تأتي بتكاليف اقتصادية واجتماعية وسياسية كبيرة. 

ومن أجل تحديد الخيارات حول كيفية منع الصراع في البلدان العربية التي تمر بمرحلة انتقالية، بحث خبراء المعهد الأميركي الدوافع الرئيسية للنزاعات حول العالم، بناءً على مجموعة بيانات منذ سنة 1960 إلى 2010. 

وأظهرت النتائج أنه على عكس الدراسات الأخرى التي ظهر فيها دخل الفرد وعدم المساواة وسوء الإدارة كمحددات رئيسية للصراع، يظهر الأمن الغذائي باعتباره السبب الرئيسي للصراعات في العالم العربي. 

وخلصت الدراسة إلى أن تحسين الأمن الغذائي وتخفيض أسعار الغذاء ليس مهماً فقط لتحسين حياة السكان، ولكن من المحتمل أيضاً أن يكون مفتاح الانتقال السلمي.

مع ملاحظة أن الدراسات السياسية، الأميركية على وجه الخصوص، تحاول حصر أسباب ثورات الربيع العربي في الأسباب الاقتصادية وارتفاع أسعار الغذاء وانعدام الأمن الغذائي، وتتجاهل مطالب الحرية والديمقراطية، باعتبار أن الخبز، أو العيش، كان مفتاح الثورات في العقود الثلاثة الأخيرة والمتصدر لمطالب المتظاهرين في ميادين الثورات العربية، دعماً لسياسة ديمقراطية الخبز، أو الخبز بدل الديمقراطية، التي تنتهجها الأنظمة الديكتاتورية في المنطقة منذ منتصف القرن الماضي وساندتها الإدارات الأميركية المتعاقبة.

يعزز هذه الفرضية أن الدول العربية هي مستورد صافٍ للغذاء، وأخطرها السلع الغذائية الأساسية الخمس. القمح، وهو المادة الأساسية في إنتاج الخبز وأحد محركات ثورات الربيع العربي. 

والذرة، وهو المكون الأكبر للأعلاف اللازمة لإنتاج اللحوم الحمراء والدواجن، والأرز والسكر والزيوت، وبالتالي فإن زيادة الأسعار الدولية للسلع المستوردة تؤثر سلباً على الأمن الغذائي العربي، ما يساعد في تحديد العلاقة السببية بين انعدام الأمن الغذائي ومخاطر الصراعات الكبرى في المنطقة.

موقف
التحديثات الحية

ولسوء الحظ تحقق دول المنطقة نسب اكتفاء ذاتي متواضعة للغاية في مجال الأغذية الاستراتيجية، وتعوض العجز بالاستيراد من السوق الدولية. فتستورد أكثر من 60% من احتياجاتها من القمح، و55% من الأرز، و65% من السكر، و55% من الزيوت النباتية، وذلك بحسب تقرير أوضاع الأمن الغذائي العربي، الصادر عن المنظمة العربية للتنمية الزراعية.

بوادر أزمة غذائية

في يناير/ كانون الثاني الماضي سجّل مؤشر منظمة الأغذية والزراعة، فاو، لأسعار الأغذية ارتفاعاً حادّاً جديداً في قيمته للشهر الثامن على التوالي، وأعلى معدل شهري منذ يوليو/ تموز 2014 بسبب زيادة أسعار السكر والحبوب والزيوت النباتية، وهي الأغذية التي تستوردها الدول العربية بكميات كبيرة. وسجلت أسعار الحبوب زيادة حادة 7.1 في المائة عن مستوياتها المسجّلة في ديسمبر/ كانون الأول، وهو ما يمثل زيادة للشهر السابع على التوالي. 

وشهدت الأسعار الدولية للذرة ارتفاعاً ملحوظاً بلغ 11.2 في المائة في شهر يناير/ كانون الثاني وبارتفاع نسبته 42.3 في المائة عن مستواها خلال شهر يناير/ كانون الثاني 2020 بسبب تقلص الإمدادات العالمية أكثر في ظلّ توقع أن يكون الإنتاج والمخزونات أقل مما كان متوقعاً في الولايات المتحدة في مقابل شراء كميات كبيرة من جانب الصين. 

وأدت المخاوف إزاء الجفاف في أميركا الجنوبية والتعليق المؤقت لصادرات الذرة في الأرجنتين إلى ارتفاع الأسعار الدولية للذرة إلى أعلى مستوياتها منذ منتصف عام 2013. 

وسجّلت أسعار القمح زيادات كبرى خلال شهر يناير/ كانون الثاني بارتفاع نسبته 6.8 في المائة بفعل ارتفاع أسعار الذرة، إضافة إلى ارتفاع الطلب العالمي وتوقعات انخفاض المبيعات من جانب الاتحاد الروسي اعتباراً من شهر مارس/ آذار 2021، عندما ستبلغ الرسوم الجمركية بالنسبة إلى صادرات القمح الضعف.

أما بالنسبة إلى الأرزّ، فقد بقيت أسعار الصادرات في شهر يناير/ كانون الثاني مرتفعة بفعل ارتفاع الطلب من المشترين في آسيا وأفريقيا، إضافة إلى انحسار الإمدادات في كل من تايلاند وفيتنام.

موقف
التحديثات الحية

وارتفعت أسعار الزيوت النباتية بنسبة 5.8 في المائة عما كانت عليه في شهر ديسمبر/ كانون الأول، وبلغت أعلى مستوى لها منذ شهر مايو/ أيار 2012. وهذه هي الزيادة في المؤشر للشهر الثامن على التوالي بسبب تراجع إنتاج زيوت النخيل في كل من إندونيسيا وماليزيا إلى ما دون المستويات المتوقعة بفعل الأمطار الغزيرة (وفي حالة ماليزيا بفعل استمرار النقص في اليد العاملة المهاجرة)، وارتفعت الأسعار الدولية لزيوت النخيل إلى أعلى مستوى لها خلال ثمانية أعوام ونصف.

أما زيت دوار الشمس، فقد واصلت أسعاره ارتفاعها بفعل انكماش العرض العالمي جراء الانخفاض الحاد في محاصيل دوار الشمس خلال الفترة 2020 /2021.

وزادت أسعار السكر بنسبة 8.1 في المائة عما كانت عليه في شهر ديسمبر/ كانون الأول 2020، وبلغت أعلى مستوى لها منذ شهر مايو/ أيار 2017. ونتجت الزيادة في الأسعار في قسم كبير منها عن استمرار الطلب العالمي الكبير والمخاوف إزاء تراجع الكميات العالمية المتاحة في 2020 /2021 في أعقاب سوء التوقعات الخاصة بالمحاصيل في الاتحاد الأوروبي والاتحاد الروسي وتايلاند وأحوال الطقس الجافة على غير عادة في أميركا الجنوبية. 

وارتفعت أسعار السكر بقدر أكبر بفعل الزيادات الأخيرة في أسعار النفط الخام وارتفاع قيمة الريال البرازيلي مقابل الدولار، بما يؤثر على عمليات الشحن من البرازيل التي تعدّ أكبر مصدّر للسكر في العالم. 

الحاجة لمركز بحوث

رغم زيادة معدلات الفجوة الغذائية ومخاطرها على الأمن الغذائي والاستقرار السياسي والاجتماعي، تتعامل الحكومات العربية مع أسواق الغذاء الدولية بسذاجة لا تتناسب مع الطبيعة المعقدة لحركة السلع وأسعارها في الأسواق الدولية. أعرف حكومات لا تفكر في شراء السلع إلا قبل أيام من نفاد المخزون الاستراتيجي، وحكومات أخرى لا تراجع البورصة العالمية للسلع إلا بعد أن تكون قد أخذت القرار بالشراء. 

لذلك اقترحت على أحد مراكز الفكر إنشاء "المركز العربي لبحوث سياسات الأمن الغذائي" لأهميته في هذه الفترة التي تعصف بالمنطقة العربية. يقوم المركز بدراسة الأسواق ورصد حالة الإمدادات الغذائية في العالم، والمخزون السلعي لدى المنتجين والمستهلكين، وأسعار الأغذية في السوق الدولية وتحليلها في ضوء العرض والطلب التاريخي والآني، وكذلك التنبؤ بالأزمات الغذائية المستقبلية، واقتراح الخطط اللازمة للتدخل في الوقت المناسب وبالآلية المناسبة للحماية من تقلبات الأسواق الخارجية التي تنعكس مباشرة على الأسواق الداخلية. وبحث تصحيح إخفاقات السوق العربية وتعزيز التجارة بين الدول العربية وتحسين دخل صغار المزارعين العرب. 

وكذلك البحث في فجوة الغذاء العربي ومستقبلها وتأثيرها على أسعار الغذاء والتضخم والفقر والعدالة الاجتماعية وانعكاساتها الاقتصادية والاجتماعية واستقرار الدولة، وتحليل خيارات السياسات والمؤسسات والابتكارات والتقنيات التي تعزز الإنتاج الغذائي المستدام وخفض أسعار المواد الغذائية في المنطقة العربية في سياق ندرة الموارد المائية وتهديدات تغير المناخ في العالم العربي. وتقديم حلول فنية قائمة على البحوث العلمية تعمل على تعزيز إنتاج الغذاء بشكل مستدام، وتقليل الفقر والقضاء على الجوع وسوء التغذية وآثاره الاقتصادية والاجتماعية، وصولاً إلى عالم عربي يتمتع بالاكتفاء الذاتي الغذائي، خالٍ من الجوع وسوء التغذية.

ويستكشف المركز المقترح أسباب وتأثيرات الأزمات البيئية والسياسية والاقتصادية التي يمكن أن تؤثر على الأمن الغذائي والتغذية والصحة والرفاهية، وتقييم التدخلات المصممة لتعزيز المرونة على مختلف المستويات في المنطقة العربية. 

ومن أهداف المركز تعزيز نظم الغذاء الصحي بدراسة كيفية تحسين جودة التغذية للفقراء في العالم العربي، مع التركيز بشكل خاص على النساء والأطفال من خلال المكونات الحيوية الثلاثة للنظام الغذائي؛ وهي الزراعة والصحة والتغذية. 

ومن أهدافه أيضاً نقل التكنولوجيا والإرشاد الزراعي من الزراعة الغربية إلى الزراعة العربية لتسريع التحول من الزراعة البدائية إلى الزراعة المكثفة وفيرة الإنتاج. يراودني الأمل أن أرى "المركز العربي لبحوث سياسات الأمن الغذائي" صرحاً علمياً في المنطقة.

المساهمون