غاز شرق المتوسط يثير جدلاً في إيطاليا: منافع الاقتصاد ومخاوف السياسة

خط غاز شرق المتوسط يثير جدلاً في إيطاليا: مخاوف سياسية ومنافع اقتصادية

11 مايو 2021
مشروع غازي مثير للجدل (Getty)
+ الخط -

يعتبر خط غاز شرق المتوسط (إيستميد) آخر العنقود الذي أعلن آباؤه المؤسسون (إسرائيل وقبرص واليونان) عن إطلاقه في مطلع العام المنصرم، صحيح أنه الأحدث من بين خطوط أنابيب الغاز الطبيعي التي يحفل بها شرق المتوسط، وأهمها (ترك ستريم والسيل الشمالي-2 وتاناب وتاب، إلخ..)، إلا أنه يكتسب أهمية متعاظمة بالنظر إلى مكوناته ومساراته وما يحيط به من تعارض للمصالح الاقتصادية والجيوسياسية في واحدة من أكثر مناطق العالم توتراً.
وقد أثار هذا المشروع، الذي يبلغ طوله 1900 كم بتكلفة تتراوح بين 6 و7 مليارات دولار ويربط حقول الغاز الطبيعي في حوض شرق المتوسط بأسواق أوروبا، جدلاً كبيراً سواء في ما يتعلق بجدواه الاقتصادية أو ما يمكن أن يسفر عنه من تصادم بين الدول المشاركة فيه (على رأسها إسرائيل) وتركيا التي أعلنت حقها في امتلاك جزء من المناطق البحرية في شرق المتوسط، معززة مركزها من خلال الاتفاق البحري مع الحكومة الليبية السابقة المعترف بها أممياً، ومن ثم مضت قدماً في أنشطة استكشاف الغاز والتدريبات البحرية في المنطقة، ما صعد حدة التوتر مع الجارة اليونان. 
وعمد مطلقو المشروع إلى إقصاء مصر من المشاركة، على الرغم من كونها الدولة الوحيدة في المنطقة التي تملك محطتي إسالة للغاز الطبيعي، والبنية التحتية اللازمة لتكون مركزاً إقليمياً لتجميع الغاز وإسالته وإعادة بيعه، ما من شأنه تسهيل عملية نقل الغاز الطبيعي بعد إسالته عبر السفن إلى موانئ أوروبا، وهو الحل الأمثل نظراً لصعوبة النقل عبر أنابيب الغاز التي تتطلب بنى تحتية معقدة وباهظة التكلفة، خاصة مع طول مسافة المشروع.

كما أن بعض الخبراء شكك في إمكانية إتمام (إيست ميد)، الذي من المفترض أن يمر عبر البلوك 9 بين إسرائيل ولبنان، ومن الأفضل لهذا الأخير، بحكم الظروف الجيوسياسية، أن يكون له خط مباشر إلى تركيا، التي تعتبر مركزاً لتوزيع الغاز القادم من روسيا وأذربيجان إلى أوروبا.

ومن المعروف أن هذا الخط، المنتظر الانتهاء منه خلال 5 سنوات، تديره شركة بوسيدون، المملوكة مناصفة لإيطاليا واليونان من خلال شركتي إديسون وديبا، وسوف ينطلق من حقل ليفياثان الإسرائيلي، الذي تملك شركة نوبل إينيرجي (استحوذت عليها شركة شيفرون الأميركية العملاقة مؤخراً) 40% من أسهمه، مروراً بحقل أفروديت القبرصي ثم جزيرة كريت، ومن ثم إلى الموانئ اليونانية ومنها إلى جنوب إيطاليا عبر خط غاز بوسيدون، وسيكون بإمكانه نقل نحو 10 مليارات متر مكعب من الغاز سنوياً إلى الأسواق الأوروبية. 
ويرى غويليلمو بيكَي، عضو مجلس النواب عن حزب رابطة الشمال والخبير الاقتصادي الإيطالي، في تحليل نشره مركز "ماكيافيللي" للدراسات السياسية والاستراتيجية، أن إيطاليا لها مصلحة ذات أولوية، سواء في الانضمام إلى منتدى غاز شرق المتوسط أو مشروع خط أنابيب غاز (إيست ميد)، الذي سيتيح لها تنويع مصادر الإمداد بالغاز الطبيعي، وخفض فاتورة الطاقة الوطنية وتخفيف مخاطر انقطاع الإمدادات. ومن خلال هذا المشروع، الذي ينخرط فيه العديد من الشركات الإيطالية بشكل مباشر أو غير مباشر، سيكون في الإمكان أن تعود إيطاليا لاعباً رئيساً على المستويين السياسي والاقتصادي في منطقة كانت معرضة فيها للتهميش.
وتابع بيكَي أنه على الرغم من المنافع الواضحة، فإن إيطاليا لم تكن لديها القدرة على قيادة مبادرة منتدى غاز شرق المتوسط، ولكن آثارها انعكست عليها. وعلاوة على ذلك، فإن التوترات الداخلية في السياسة الإيطالية تحاشت مناقشة مشاركة إيطاليا في إنجاز خط الغاز، حتى إن رئيس الوزراء السابق جوزيبي كونتي كان قد أعلن أنه لم يكن ممكناً أن يصل خط غاز آخر (بعد تاب) إلى إقليم بوليا (جنوبي إيطاليا).

وأضاف: "سوف نرى ما إذا كانت الحكومة الجديدة سوف تنجح، كما تأمل الرابطة، في انتهاز الفرص التي يقدمها منتدى غاز شرق المتوسط لبلادنا."

وأوضح أنه إذا كان هذا المشروع بالغ الأهمية بالنسبة لإيطاليا، فإنه يتضمن العديد من الجوانب السلبية، وفي مقدمتها التكلفة الباهظة للخط (6 مليارات دولار)، والتوترات التي من الممكن أن يثيرها مع اللاعبين الإقليميين (تركيا واليونان، وإسرائيل ولبنان). "من ناحية أخرى، نجد أن القارة الأوروبية التي تعد السوق الرئيس للغاز المنقول عبر (إيست ميد) تخطط لنزع الكربون نهائياً من اقتصادها بحلول عام 2050، ما من شأنه النزول باستهلاك الغاز الطبيعي بنسبة 25%-30% خلال عام 2030". 
ولا شك في أن إشراك تركيا في المنتدى من دون شروط مسبقة أمر ضروري، سواء لتخفيف الطابع الهجومي للسياسة الخارجية لأنقرة، ولا سيما بعد اتفاق الحدود البحرية الذي أبرمته في نوفمبر/ تشرين الثاني مع ليبيا وأعمال التنقيب التي تجريها سفنها أمام السواحل القبرصية، أو للوضوح والاستقرار المطلوب نقلهما للشركات والجهات الممولة التي من المفترض أن تستثمر في (إيست ميد). ومن الطبيعي في ظل هذه الأوضاع أنه سيكون من الصعوبة بمكان إنجاز هذا المشروع.  
واعتبر النائب الإيطالي أن التوترات والمصالح المتعارضة للاعبين المختلفين في حوض المتوسط الشرقي فرصة ذهبية، لا بد أن تقتنصها إيطاليا التي تحظى بالمستوى الأفضل من العلاقات مع جميع الأطراف المعنية، خاصة مع وجود مجموعة إيني بوصفها أكبر شركة طاقة عاملة في مصر وقبرص ولبنان.

وعلى الرغم من الحادث المؤسف المتمثل في إيقاف البحرية التركية لإحدى سفن التنقيب التابعة لشركة سايبم الإيطالية أمام سواحل قبرص في عام 2018، فما زالت روما وأنقرة ترتبطان بعلاقات طيبة للغاية، تجلت في عمليات التنقيب المشتركة في أغسطس/آب 2020، وفي الفترة ذاتها، نفذت إيطاليا عمليات مماثلة أيضاً مع كل من قبرص واليونان وفرنسا.
ورأى أن تداعيات أزمة تفشي جائحة كورونا على مشروع (إيست ميد) ما زالت مجهولة. ومن ناحية أخرى، فإن التراجع التاريخي للطلب على النفط والغاز والتكاليف الباهظة لمشروعات غاز ساحلية بعينها في قبرص واليونان وإسرائيل، من الممكن أن تشكل ضربة قاصمة لإنجاز المشروع. وفي خلفية هذا المشهد تبقى ثمة غيوم مشحونة بالتوتر في شرق المتوسط، نتيجة لمطالبة تركيا بحقوقها المدعاة في التنقيب والتي تقلق سواء شركات الغاز أو المستثمرين في القطاع.
وختم بقوله إن الحكومة الإيطالية الجديدة برئاسة دراغي سوف يتعين عليها تقييم جميع عناصر اللعبة بدقة واهتمام، ومراعاة الاختيار بين تنويع المصادر وأمن الطاقة ودور إيطاليا في المنطقة من ناحية، والتكاليف والمصاعب السياسية التي تواجه إنجاز ذلك المشروع من ناحية أخرى. وأخيراً، ثمة سؤال ما زال مطروحاً: هل تملك إيطاليا الرغبة والقدرة على أن يكون لها دور رئيس في البحر المتوسط؟

من جانبه، ذكر لابو بيستيللي، رئيس المرصد المتوسطي للطاقة، في حوار أجرته معه مجلة "ليميس" الإيطالية المرموقة المتخصصة في الدراسات الجيوسياسية، أن خط غاز شرق المتوسط (إيست ميد) مشروع طموح، ولكنه مشطور حالياً، نظراً للغياب الكلي للجانب التركي، بينما يتطلع القبارصة إلى عملية تنمية شاملة، في حين يمضي المحور الجنوبي، الذي يضم إسرائيل ومصر والأردن، قدماً متجاوزاً صراعات الماضي، لا سيما أن دبلوماسية الطاقة بين الدول الثلاث تسير على خير ما يرام. 
وأوضح بيستيللي أن منتدى غاز شرق المتوسط أنهى عملية بلورة هيكله المؤسسي، وصار بجميع المقاييس منظمة دولية تسعى كل من فرنسا والإمارات للانضمام لعضويتها، والولايات المتحدة وروسيا كمراقبين. وعبر هذا المنتدى سيكون من الممكن التحدث مع حكومات المنطقة، ما يمثل عنصر ارتياح لإيطاليا التي كانت من بين الدول الداعية له، علاوة على كونها الدولة الوحيدة العضو في المنتدى التي لا تنتمي، جغرافياً، للمنطقة.
وأضاف أن تركيا لم تُدع إلى هذا المنتدى وظلت خارجه، ولهذا السبب أيضاً أرادت أن تظهر قدرتها على إصابة الكيان بالشلل، أولاً وقبل كل شيء عبر جزئها الشمالي (قبرص التركية)، ثم أحد المشاريع الضخمة التي داعبت خيالها (إيست ميد)، وأخيراً اتفاق ترسيم الحدود البحرية مع حكومة طرابلس. ولكن أنقرة محرومة من الغاز وجائعة للطاقة، كما أن عقود التوريد التي توشك على الانتهاء تجعلها حتى هذه اللحظة تعتمد على الإمدادات الروسية، وفي الأعوام الأخيرة، ركزت كثيراً على محطات إسالة الغاز الطبيعي لتأمين إمدادات الطاقة للبلاد. 
ورأى خبير الطاقة الإيطالي أخيراً أن الاستمرار في تعطيل إمكانيات منطقة ما يبدو أمراً غير منطقي وغير مبرر، فالطاقة من الممكن أن تكون مجالاً للمصالحة الجيوسياسية. "وبعد أن اعتدنا على النظر إليها سبباً للصراعات، يمكننا الآن البدء في تصورها حلاً ممكناً للصراعات، إذ قيل قديماً إن كل الطرق تؤدي إلى روما، واليوم يبدو أن كل طرق (الطاقة) سوف تؤدي، بالضرورة، إلى شرق المتوسط".

المساهمون