لماذا يثق السيسي في حيادية البنك الدولي؟

لماذا يثق السيسي في حيادية البنك الدولي؟

09 يناير 2020
إشراك البنك الدولي بمفاوضات سد النهضة (فرانس برس)
+ الخط -
رغم اتهام منظمات دولية، البنك الدولي، بالتورط في تمويل السدود الكهرومائية الضخمة في إثيوبيا بطرق ملتوية ساعيًا وراء الأرباح ومخلفًا الخراب والجوع والتشريد والفقر بين شعوب القبائل في وادي نهر أومو، طالب الجنرال السيسي بإشراك البنك بالمفاوضات الجارية مع إثيوبيا للمساعدة في إيجاد حل لأزمة سد النهضة، وقال على لسان وزير خارجيته سامح شكري إنه يثق في حيادية البنك الدولي وخبرته الفنية عالية الكفاءة. 

هيومن رايتس ووتش

اتهمت هيومن رايتس ووتش، البنك الدولي، بمنح إثيوبيا في العام 2012 قرضًا قيمته 684 مليون دولار لتمويل مشروع خط كهرباء بطول ألف كيلومتر لتصدير الطاقة الكهربائية من سد جيبي الثالث المثير للجدل والمقام على نهر أومو في إثيوبيا والذي تسبب في تشريد وتقويض حقوق شعوب القبائل في وادي نهر أومو وحول بحيرة توركانا في كينيا.

وقالت المنظمة إنه في عام 2010، توقف البنك الدولي عن تمويل السد بسبب انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان ومخاوف بيئية لم تتداركها اثيوبيا عند الشروع في بناء السد العملاق. لكن البنك نكث بوعده، وقام بتمويل السد من الباب الخلفي، وفق تعبير المنظمة الحقوقية، حيث عمد إلى إخفاء مصدر الكهرباء واستبدل العبارة التي تكشف عن أن السد محل الجدل هو مصدر الكهرباء وهي: "من مشروع جيلجيل جيبي للطاقة الكهرومائية" الموجودة في عقود المشروع، بعبارة "من شبكة الكهرباء في إثيوبيا"، ما ينطوي على تضليل وخداع وتمويل بطريقة ملتوية.

وكشفت المنظمة أن الحكومة الإثيوبية لا تحتجز المياه لتوليد الكهرباء فحسب ولكن تستخدمها في ري مزارع قصب السكر على مساحة 600 ألف فدان من الأراضي التي تديرها الدولة لصالح شركات صينية وإيطالية، وقامت الحكومة بطرد سكان القبائل من أراضيهم واعتقال المعارضين لسياستها، ورغم ذلك استمر البنك في خطته لتمويل المشروع.

وأرسلت المنظمة رسالة مفتوحة إلى رئيس البنك الدولي في حينه، جيم كيم، أدانت فيها تمويل البنك للسد، وقالت إن استخدام المياه في ري مزارع السكر له تأثير تراكمي خطير على فيضان النهر والنظام الاقتصادي والاجتماعي والبيئي على نصف مليون نسمة من سكان القبائل الذين يعيشون على ضفاف نهر أومو بطول 760 كم وحول بحيرة توركانا، وعواقب وخيمة على زراعة المحاصيل والمراعي الطبيعية.

وشجبت المنظمة تمويل البنك لخط نقل الكهرباء وقالت إنه يوصل رسالة إلى حكومة إثيوبيا بأنه يمكنها أن تتجاهل الآثار المدمرة للسدود التي تبنيها ورغم ذلك تُكافأ على ما تقوم به. هذه شهادة منظمة هيومن رايتس ووتش على تمويل البنك الدولي لسد جيبي الثالث في اثيوبيا على نهر أومو والذي يشبه سد النهضة الذي سيقطع مياه النيل الأزرق ويهدد الحياة في مصر، ورغم ذلك يطالب السيسي بمشاركته في حل أزمة السد.

الأنهار الدولية

أما منظمة الأنهار الدولية، وهي منظمة عالمية تختص بالدفاع عن الأنهار العابرة للحدود وعن حقوق المجتمعات التي تعيش حولها وتعارض إقامة السدود المدمرة الضخمة، فقد حمّلت البنك الدولي مسؤولية الكارثة الإنسانية في وادي نهر أومو، جراء تمويل بناء سد جيبي الثالث من دون إنجاز دراسات عدم الضرر الاقتصادية والبيئية المطلوبة، ومن دون التشاور مع سكان القبائل وحمايتهم من التهجير القسري، وهي جرائم أخلاقية تلزم البنك الدولي والحكومات الغربية المانحة بالتوقف عن تمويل سدود مائية من هذا النوع.

وأكدت المنظمة أن إثيوبيا تجاهلت الآثار الخطيرة للسد على شعوب القبائل، وأنه لم يكن بوسعها بناء سد جيبي الثالث وسد جيبي الرابع الذي تبنيه على النهر نفسه، دون الدعم والمنح والقروض التي تتلقاها من البنك الدولي والحكومات الغربية، الأمر الذي من شأنه أن ينشر الجوع والفقر ويقوض السلم والأمن. وفضحت المنظمة تجاهل البنك سلوك الحكومة الإثيوبية التي تعتقل من ينقل حقيقة الوضع في الإقليم من الصحافيين ومن يتحدث إليهم من شعوب القبائل.

وحذرت المنظمة من انهيار سبل العيش وتهديد للسلم والأمن في القرن الأفريقي بسبب حجب المياه واستخدامها بكثافة في ري مساحات واسعة من مزارع القصب المستحدثة في الوادي، ورجحت أن تسعى القبائل المتضررة إلى الاعتداء على موارد أراضي الجيران في المناطق الحدودية بين كينيا وإثيوبيا والسودان.

البنك يضمن أمواله

في منتصف 2018، بلغ حجم الدين العام لإثيوبيا 24.7 مليار دولار، وفق تقرير قدمه رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، لبرلمان بلاده. لكن خلال ستة أشهر فقط، تضاعف الدين إلى 50 مليار دولار، وبلغت ديون البنك الدولي وحده 8 مليارات دولار في مطلع 2019، معظم هذه الديون تم إنفاقها على مشاريع البنية التحتية والسدود التي تشيّدها إثيوبيا لعلاج الفقر كما تدعي.

وفي ديسمبر/كانون الأول الماضي، منح البنك إثيوبيا قرضًا بقيمة 6 مليارات دولار إضافية مناصفة مع صندوق النقد الدولي، بالإضافة إلى 3 مليارات إضافية حصلت عليها حكومة آبي أحمد من الدول المانحة، وفق بيان وزارة المالية الإثيوبية. 

القرض جاء بعد شهر واحد من إشراك البنك الدولي في مفاوضات سد النهضة ومن دون اشتراط إجراءات تقشفية على الحكومة الإثيوبية، كما فعل صندوق النقد مع الحكومة المصرية عندما أقرضها 12 مليار دولار، ما يكشف عن محاباة البنك لحكومة أحمد.

توقيت منح البنك الدولي إثيوبيا قرضاً ضخماً بقيمة 6 مليارات دولار مع إشراكه في مفاوضات سد النهضة له دلالة لا يمكن تجاوزها، ذلك أن إشراك البنك في مفاوضات السد يضمن استمرار مصر في المفاوضات العبثية وعدم انسحابها، وكذلك عدم اعتراضها على تلقّي إثيوبيا قروضاً أجنبية لتمويل بناء السد، رغم عدم إنجاز دراسات عدم الضرر المطلوبة، وهذا من شأنه أن يضفي الشرعية على التمويل الأجنبي للسد، ويعطي ضماناً للدائنين لاسترداد أموالهم من ناتج تصدير كهرباء السد بعد شرعنتها. 

دراسات عدم الضرر

تمويل السدود من دون إنجاز دراسات عدم الضرر هو جريمة أخلاقية تتنافى مع القانون الدولي المعمول به في مجال السدود الكبيرة على الأنهار الدولية، وتتناقض مع السياسات الملزمة للبنك الدولي في هذا المجال أيضًا. 

وقد اعترف السيسي صراحة، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي، بأنه تفهّم شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة، رغم عدم إجرائها دراسات وافية حول آثار المشروع الضخم، بما يراعي عدم الإضرار بالمصالح المائية لدول المصبّ ومنها مصر، وهو اعتراف يثبت تواطؤاً في حماية حقوق مصر المائية، وتقصيراً في منع البنك الدولي من منح إثيوبيا قروضاً تستخدمها في بناء السدود من دون دراسات وافية، على حد اعتراف السيسي.

أكثر من ذلك، فإن حرص السيسي على إشراك البنك الدولي في مفاوضات سد النهضة، رغم اتهام المنظمات الدولية له بتمويل سدود من شأنها نشر الخراب والفقر وتقويض السلم والأمن، وتمكين البنك من قيامه بدور "المراقب" لالتزام الدول الثلاث بتطبيق اتفاق المبادئ الموقّع في مارس/آذار 2015، وهو الاتفاق الذي أضعف موقف مصر في المعركة التي تخوضها مع إثيوبيا للحفاظ على حقها في المياه والحياة، وحصر المفاوضات في سنوات الملء الأول وقواعد التشغيل من دون إلزام إثيوبيا بالاعتراف بحقوق مصر المائية ومن دون إنجاز دراسات عدم الضرر، هي جريمة أخرى. 

وقف تمويل السد

جريمة إضافية ارتكبها السيسي وتاهت في جولات المفاوضات العبثية، ألا وهي التفريط في التمسك بالقرار الدولي الذي يقضي بمنع تمويل مشروع بناء سد النهضة من قبل المؤسسات المالية الدولية، وصندوق النقد والبنك الدوليين، وكذلك وقف القروض الأجنبية التي تنوي إثيوبيا الحصول عليها لبناء سدود إضافية على النيل الأزرق.

قرار نجحت مصر في استصداره في 23 إبريل/نيسان 2014 بعد معركة شرسة بدأتها الدبلوماسية المصرية منذ أعلنت إثيوبيا عن نيتها البدء في بناء السد في إبريل 2011 وتكللت بالنجاح في استصدار القرار الذي بموجبه كان يمكن عرقلة بناء وتشغيل السد لسنوات طويلة، ذلك أن إثيوبيا بلد فقير لا يستطيع بناء السد ذاتياً بتكلفة 4.8 مليارات دولار تمثل 12% من الناتج المحلي للدولة. 
لكن، وبعد هذا الإنجاز الفارق في تاريخ الأزمة، فاجأ السيسي الجميع، ووقّع اتفاق المبادئ المثير للجدل في شهر مارس 2015 مع إثيوبيا والسودان، والذي بمقتضاه تنازل عن حصة مصر القانونية والتاريخية في مياه النيل، والأخطر من ذلك أنه أعطى شرعية قانونية للسد مكنت إثيوبيا من الحصول على قروض البنك الدولي لتمويل بناء السد، وقد كانت محرومة منها بموجب القرار الدولي.

ورغم أن إعلان المبادئ أعطى شرعية للسد في مرحلة البناء، ولكن هذه الشرعية ظلت منقوصة حتى الآن، لأن إثيوبيا لم تنفذ أهم وأخطر شروطه، ألا وهو إثبات عدم الضرر.

وقد نص المبدأ الخامس في الاتفاق، والخاص بالتعاون في الملء الأول وإدارة السد، على تنفيذ توصيات لجنة الخبراء الدولية حول الدراسات الموصى بها في التقرير النهائي للجنة، وهي دراسة أمان السد ودراسة عدم إلحاق ضرر ذي شأن.

وحدد الاتفاق الإطار الزمني لتنفيذ هذه الدراسات، وهو 15 شهراً، منذ بداية إعداد الدراستين الموصى بهما من جانب لجنة الخبراء الدولية.

ولكن إثيوبيا رفضت اعتماد التقرير الاستهلالي الخاص بدراسة التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية والهيدروليكية على مصر والسودان، إثر إنشاء وملء وتشغيل سد النهضة في نوفمبر 2017، وهو مبرر لانسحاب السيسي من الاتفاق ووقف المفاوضات العبثية ورفع الأزمة إلى مجلس الأمن، وليس إشراك البنك الدولي في مفاوضات تمكن إثيوبيا من فرض الأمر الواقع وتضفي الشرعية على السد الذي يهدد حق المصريين في المياه والحياة.

المساهمون