استمع إلى الملخص
- يتطلب إصلاح القطاع العام إرادة سياسية جادة، إعادة هيكلة الإدارة العامة، واستقطاب النخب لتأسيس إدارة حديثة تعتمد على الحياد واللامركزية.
- شغور كبير في الوظائف بنسبة تتجاوز 72% بسبب التوظيف السياسي، مما يستدعي إعادة هيكلة الرواتب وزيادتها بنسبة لا تقل عن 50% وتطوير الحكومة الإلكترونية.
يعاني موظفو القطاع العام في لبنان أوضاعاً مأساوية، إلى حد أنّ الكثيرين منهم يواجهون الموت على أبواب المستشفيات، نتيجة غياب الرعاية الصحية وضآلة الرواتب لأكثر من 320 ألف موظف، الأمر الذي يدق جرس إنذار للحكومة اللبنانية لبدء إجراءات الإصلاح.
ويتطلب إنقاذ القطاع العام وضع رؤية واضحة وإجراءات جريئة تبدأ بفصل السياسة عن الإدارة، وضمان حقوق الموظفين والمتعاقدين، ليعود القطاع العام ركيزةً قوية تدعم الدولة والمجتمع. أما المتعاقدون الذين يعيشون حالة من القلق بشأن مصيرهم في ظل خطط إعادة الهيكلة المرتقبة، فإن تطلعاتهم تتجه نحو التثبيت، حيث يعمل هؤلاء من دون أي ضمانات تُذكر، بينما يتأرجح مستقبلهم بين الوعود والغموض.
ولن يكون إصلاح القطاع العام مهمة سهلة، لكنه ممكن إذا توفر قرار سياسي جاد وإرادة حقيقية لفتح ملفات الإدارات العامة ومحاسبة المسؤولين عنها، وفقاً لما تناوله خطاب القَسَم الرئاسي للرئيس جوزاف عون، بشأن ضرورة إعادة هيكلة الإدارة العامة، واستقطاب النخب لتأسيس إدارة حديثة فعّالة، تعمل بروح العصر وتعتمد على مبدأ الحياد، واللامركزية، والإدارة الإلكترونية. ورغم التفاؤل بالاتجاه الذي قد تتخذه حكومة نواف سلام، يبقى الواقع مرهوناً بنية التنفيذ.
وأصبحت الدولة اللبنانية اليوم في حاجة إلى إعادة بناء شاملة في إداراتها العامة، تتطلب وزراء ذوي خبرة ميدانية لمعالجة الأزمات بشكل عملي بعيداً عن الحلول النظرية، حيث يعاني القطاع العام تضخماً شديداً، وشكّل حوالي 32% من حجم الاقتصاد قبل الأزمة الاقتصادية. ويعود هذا التضخم إلى استخدام القطاع العام أداة سياسية لاحتواء المحازبين والمؤيدين عبر التوظيف بعقود متنوعة، مثل التعاقد اليومي أو الساعي أو السنوي، مما زاد من أعباء هذا القطاع المثقل بالأزمات.
وفي سياق متصل، صرّح رئيس تجمّع موظفي الإدارة العامة، حسن وهبي، في حديث خاص لـ"العربي الجديد"، بأنّ المادة 21 من قانون سلسلة الرتب والرواتب الصادر في أغسطس/ آب 2017 تنص على منع الإدارات من التوظيف، على أن تقوم الحكومة بإجراء مسح شامل لوظائف القطاع العام. وأشار إلى أن هناك وظائف أصبحت ملغاة بفعل التطور، مثل مديرية سكك الحديد. ورغم توقفه لثلاث سنوات بموجب القانون، ما زال التوظيف متوقفاً حتى يومنا هذا.
وأضاف وهبي أنّ عدداً كبيراً من الموظفين أنهوا خدمتهم وخرجوا إلى التقاعد، مما أدى إلى شغور في مواقعهم، حتى أصبحت نسبة الوظائف المشغولة بالتكليف تبلغ 80%، وتشمل الوظائف من الفئة الخامسة وصولاً إلى الفئة الأولى، لافتاً إلى أنّ منصب حاكم مصرف لبنان بات بالإنابة، وقيادة الجيش بالإنابة، ورؤساء الأمن العام بالإنابة، مشيراً إلى أنّ "عدم اتخاذ قرارات في مجلس الوزراء تتعلق بتعيين الموظفين، أو إجراء مباريات للتوظيف، أدى إلى تفاقم هذا الوضع في الإدارات العامة. ومن هنا جاء طرح الرئيس المنتخب جوزاف عون، في خطابه حول ضرورة هيكلة القطاع العام".
وأوضح وهبي أنّ نسبة التوظيف في الإدارات العامة كانت تُحدد وفق ملاك مجلس الخدمة المدنية، الذي يحدد احتياجات الموظفين في كل إدارة، مشيراً إلى أنّ إدخال الميكنة في بعض الوزارات أدى إلى تنوع في الاحتياجات الوظيفية، بحسب طبيعة كل وزارة، مما استدعى مراجعة شاملة للتوصيف الوظيفي، وتحديد أعداد الموظفين المطلوبين، والشروط المطلوبة للتوظيف.
وأكد وهبي أنّ هناك عدداً كبيراً من المتعاقدين امتدت عقودهم لتشمل مختلف إدارات ومؤسسات الدولة، ما أدى إلى استنزاف الجسم الوظيفي في جميع الفئات. وأوضح أنّ التعاقد كان يفترض أن يكون هناك حل استثنائي لسدّ احتياجات مرحلية، لكنه تحوّل إلى نظام شبه دائم بفعل استغلال الطبقة السياسية له.
نسبة الشغور في القطاع العام اللبناني 72% وأكثر
وأشار إلى أنّ هذا الوضع سبّب شغوراً كبيراً في الوظائف العامة، فوفقاً لمجلس الخدمة المدنية، هناك حوالي 27 ألف وظيفة ملحوظة في الإدارة العامة، لكن عدد الوظائف المشغولة لا يتجاوز 7,900 وظيفة، في حين أن 19,900 وظيفة ما زالت شاغرة، أي بنسبة شغور تتجاوز 72%، وتصل في بعض الفئات إلى أكثر من 90%. ولفت إلى أنّ الأزمة الاقتصادية التي حلت بلبنان منذ عام 2019 دفعت العديد من الموظفين إلى الهجرة، إذ انخفضت قيمة رواتبهم إلى 20 دولاراً شهرياً، رغم أن الأجور ارتفعت لاحقاً تحت مسميات "بدل إنتاجية" أو "بدل مثابرة".
وأضاف وهبي أن التوظيف السياسي انتهى عملياً في عام 2020، مع اتخاذ قرار وقف التوظيف، مما أوقف الفساد والمحسوبيات المرتبطة به، وأشار إلى أنّ الاقتصاد اللبناني يعتمد على الخدمات وعلى الضرائب والرسوم التي تجبيها الدولة من الإدارات العامة، "لذا يجب أن تكون الأولوية لتحسين القطاع العام وسيلةً لتحسين واردات الدولة"، وفق قوله.
وفي ما يخص بالآليات اللازمة لجذب الموظفين إلى الإدارات العامة، أشار وهبي إلى تجربة وزارة المالية، التي كانت سبّاقة في إدخال الميكنة منذ صدور قانون القيمة المضافة عام 2001، حيث أُنشئ فريق يُسمى "المركز الإلكتروني" يضم مهندسين وأصحاب اختصاص ذوي كفاءة عالية. لكن مع بداية الأزمة وتدني الرواتب، ترك هؤلاء وظائفهم وانتقلوا إلى مؤسسات أخرى برواتب مرتفعة، ما سبّب مشكلات كبيرة داخل الوزارة. وشدد وهبي على ضرورة تحسين أوضاع الموظفين، وإعادة هيكلة الرواتب، من خلال زيادة أولية لا تقل عن 50%، بما يضمن استقرار الوظائف والموظفين.
وعن الحكومة الإلكترونية، أشار إلى أنها تحتاج إلى مقومات عدة للتنفيذ، مشيرًا إلى أن المواطنين قد يواجهون صعوبات في استخدامها. لكنه أكد أن تلك الصعوبات يمكن تجاوزها، مضيفاً: "قد يجد الموظف أو المواطن صعوبة في استخدام نظام العمل الإلكتروني في البداية، لكنه سينجح في نهاية المطاف". وعلاوة على ذلك، يتقاضى موظفو القطاع العام، بمن فيهم العسكريون وموظفو الإدارات والمؤسسات العامة والبلديات والمتقاعدون، شهريًّا نحو 145 مليون دولار.
بدوره، أفاد رئيس اتحاد العمالي العام، بشارة الأسمر، في حديث لـ"العربي الجديد" بأن هناك حاجة ماسة إلى ورشة عمل لإعادة هيكلة القطاع العام، مشيراً إلى أن هذا الموضوع تمت مناقشته خلال الاجتماعات مع الرئيس المكلّف نواف سلام. واعتبرأن القطاع العام يتحمّل أعباءً كبيرة ويتعرض لاتهامات متعددة، مثل كونه فضفاضاً، وفاسداً، وغير منظّم. وأوضح أن هذه السمات قد تنطبق على جزء من القطاع العام، بينما يوجد جزء آخر فعّال وشفاف ويعمل بجهد ومسؤولية كبيرة.
وأضاف الأسمر أن القطاع العام يعاني من ضعف كبير في الموارد البشرية، حيث كان عدد موظفي مرفأ بيروت يفوق 2700 موظف، أما اليوم فلا يتجاوز العدد 170 موظفاً. لذلك، تحميل القطاع العام كامل مسؤولية الكارثة الاقتصادية وغياب الحوكمة أمر غير منطقي وغير واقعي. وأكد ضرورة إعادة هيكلة المؤسسات العامة بشكل تدريجي، مع التركيز على المكننة والحكومة الإلكترونية، لافتاً إلى أهمية أن يكون هذا الانتقال منظماً وعلى مراحل.
وشدد الأسمر على دعم النقابات لفكرة هيكلة القطاع العام واستعادة سياسة توظيفه إلى مستويات النجاح السابقة، مع توفير الدعم للشباب للانخراط في هذا القطاع. وأشار إلى أن الحديث عن فائض الموظفين ينطبق على بعض المؤسسات والوزارات، مثل العدد الزائد من الأساتذة في التعليم الرسمي، بينما الفائض الأكبر يتمثل في القوى الأمنية والعسكرية والمتقاعدين.
ورفض الأسمر القول إن القطاع العام بأسره فاسد وغير منتج، مؤكداً على وجود مؤسسات بحاجة إلى ترميم وإعادة بناء، مشدداً على أهمية الانتقال إلى مرحلة جديدة تعتمد على التكنولوجيا. كما دعا إلى دعم المؤسسات والهيئات الإنتاجية التي تحقق عوائد مرتفعة نسبياً للدولة، لافتاً إلى أن ذلك يمكن تحقيقه من خلال شراكة بين القطاع العام والقطاع الخاص.
وأوضح أن أي انتقالية تتطلب دراسة دقيقة، خاصة أن صندوق النقد الدولي يطالب بإصلاحات معينة كشرط للحصول على الدعم. لذلك، يجب على الحكومة أن تتجاوب مع هذه المطالب بشكل مدروس، مع تقديم إحصاءات شفافة حول توزيع موظفي القطاع العام. ورأى الأسمر أن صندوق النقد يمكن أن يتفهم هذا الأمر، بدلاً من التمسك بمطالب قد تكون مجحفة بحق القطاع العام.
وحول مشكلة التوظيف، أشار الأسمر إلى انتشار التوظيف المقنع تحت تسميات متعددة مثل "إيجار الخدمة"، و"عمال المتعهد"، و"العمال المياومين". وشدد على ضرورة إنهاء هذه الظاهرة واللجوء إلى مجلس الخدمة المدنية لإدخال الكفاءات والاختصاصات من خلال مباريات واضحة وفق شروط وظيفية محددة، مما يضفي الشرعية على المؤسسات.
أما بشأن وضع المتعاقدين في حال تقليص أعداد الموظفين، فأكد الأسمر على أهمية الدخول في مرحلة إصلاحية لإعادة بناء القطاع العام. وأضاف أن غالبية المتعاقدين، مثل موظفي وزارة المالية ووزارة الشؤون الاجتماعية، يحملون أعلى الشهادات، ومع ذلك لا تتجاوز رواتبهم حالياً 30 دولاراً شهرياً.