لعبة عض أصابع في لبنان

لعبة عض أصابع في لبنان

03 مايو 2020
دياب ألقى الكرة في ملعب حاكم المصرف المركزي(العربي الجديد)
+ الخط -
يوم ملأ اللبنانيّون الشوارع في أكتوبر/تشرين الأوّل الماضي، كان واضحاً أنّ ما يحدث كناية عن ثورة سياسيّة كلاسيكيّة. عمّت الشوارع مظاهرات غلب عليها الطابع السلمي، وحمل المحتجّون مطالب تعلّق أغلبها بالدعوة إلى استقالة الحكومة وتشكيل حكومة انتقالية، ومحاسبة المتورّطين في قضايا الفساد الحكومي.

وحتّى حين اندلعت بعض المواجهات مع قوى الأمن على هامش المظاهرات أو عند قطع الطرقات، ظلّت هذه المواجهات محكومة بضوابط حددت مسرح الأحداث وسقفها ومستوى التصعيد.

اليوم باتت الصورة مختلفة تماماً. فمعظم الذين ملأوا الشوارع اللبنانيّة في الأيام الماضية كانوا من الشرائح الاجتماعية المهمّشة، التي باتت غير قادرة على توفير أدنى مقوّمات العيش، بعد كل ما ألمّ بالبلاد من هبوط قياسي في سعر الصرف، وإقفال للشركات وتسريح للموظفين.

ولذلك فقد تفلّتت الاحتجاجات الصاخبة من أي قيود أو ضوابط، وباتت الأحياء الفقيرة منبع المظاهرات الغاضبة التي استهدفت فروع المصارف التجاريّة ومصرف لبنان. إذاً، إنّها ثورة جياع هذه المرّة.

أمام هذا المشهد، كانت ردّة فعل الحكومة اللبنانيّة مفاجئة إلى حد كبير. لم يحفل الاجتماع الأوّل لهذه الحكومة بعد اندلاع الأحداث بأي قرارات جديّة عاجلة للتعامل مع الوضع المستجد، بينما اكتفى رئيسها بكلمة مطوّلة تساءل فيها كالمتفرّج عن الأرقام والحقائق الموجودة بحوزة مصرف لبنان، محاولاً إلقاء الكرة في ملعب حاكم المصرف المركزي، وملمّحاً إلى دوره في الوصول إلى هذا الوضع.
كان رئيس الحكومة يحاول تحييد نفسه عن الأزمة، رغم أنّ حكومته نفسها هي من فشلت، نتيجة الخلافات حول تحاصص المناصب، في إنجاز تعيينات نوّاب حاكم المصرف المركزي، الذين كان يُفترض أن يشاطروا الحاكم مسؤوليّة صياغة السياسة النقديّة للبلاد، من خلال وجودهم في المجلس المركزي لمصرف لبنان.

كما أنّ الحكومة نفسها فشلت حتّى الآن، وللسبب نفسه، في إنجاز تعيينات لجنة الرقابة على المصارف، وهي الكيان المسؤول عن مراقبة عمليّات المصارف التجاريّة في لبنان.

أراد رئيس الحكومة الإمعان في إلقاء كرة النار على المصرف المركزي، فأعلن اتجاهه نحو تعيين شركات تدقيق أجنبيّة، لمراجعة أرقام مصرف لبنان. وهنا كمنت المفارقة الكبرى، إذ كان يُفترض أن تكون مهام التدقيق هذه من مسؤوليّة مفوّض الحكومة لدى مصرف لبنان، وهو مفوّض لم يجر تعيينه حتّى الآن أيضاً، بسبب الخلافات داخل الحكومة على كيفيّة تحاصص المناصب.

لم يختلف سلوك حاكم المصرف المركزي كثيراً عن سلوك رئيس الحكومة. إذ خرج في كلمة تلفزيونيّة مطوّلة، أثقلها بالمصطلحات والتعابير التقنيّة الماليّة المعقّدة، تركّز كل مضمونها على الدفاع عن سياسات مصرف لبنان السابقة.

لم يعد اللبنانيين بأي معالجة، ولم يعلن عن أي خطوة أو مبادرة عاجلة للتعامل مع الواقع المستجد، فيما أكثر من التلميح إلى مسؤوليّة السلطة في الإفراط في الاستدانة.

وبمعزل عن خطابه، كان حاكم المصرف المركزي طوال الشهر الماضي يصدر التعاميم المتتالية، التي فاقمت من حدّة أزمة سعر الصرف، من خلال زيادة المعروض من الليرة اللبنانيّة وخنق مصادر الدولار المتوفّرة. وكانت بعض التحليلات والتكهّنات تشير إلى علاقة هذه التعاميم بمحاولة الحاكم تفجير الوضع المعيشي في وجه رئيس الحكومة، الذي يختلف معه في معظم المقاربات الماليّة.
غياب التنسيق والانسجام بين حاكم المصرف المركزي ورئيس الحكومة، ومعه رئيس الجمهوريّة، كان واضحاً، كما كان واضحاً أيضاً عدم مبادرة أي من الطرفين إلى تحمّل مسؤوليّة كرة النار التي تكبر.

عملياً، كان الطرفان يلعبان لعبة عض الأصابع المعروفة في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، من خلال مبادرة كلّ طرف إلى تحميل المسؤوليّة إلى الطرف الآخر، مراهناً على إيلامه وإسقاطه أوّلاً. مع العلم أن المؤشّرات تدل على وقوف قوى سياسيّة معيّنة خلف كل طرف، لدعمه في محاولة إسقاط الآخر.

أمام هذا المشهد المليء بتناقضات المسؤولين عن إدارة الوضعين المالي والنقدي، يصبح من الواضح أن السلطة في لبنان لا تمتلك إجابات آنيّة واضحة للشارع الملتهب. وفي الوقت الراهن، سيكتفي المسؤولون بالانشغال بالمناوشات والمكائد السياسيّة، بانتظار الرهان الأخير والوحيد على المدى الأطول: برنامج صندوق النقد الدولي.

أنجزت الحكومة خطة الإصلاح، وفي اليوم التالي بالضبط وقّع رئيسها طلب المعونة من صندوق النقد. تؤكّد هذه العجلة في توقيع الطلب جميع التحليلات التي أشارت إلى أن خطّة الإصلاح لم تكن سوى ورقة عمل أعدّتها الحكومة على عجل، للدخول في برنامج قرض مع الصندوق.

في الواقع، يمكن التأكّد من هذه الحقيقة بمجرّد قراءة الخطّة، التي تركّز معظمها على المعالجات الماليّة التي تهم دائنا محتملا كصندوق النقد، لتأكيد إمكانيّة استعادة الدولة لملاءتها الائتمانية، فيما غاب عن الخطّة التركيز على الإصلاحات الفعليّة المطلوبة في بنية الاقتصاد اللبناني.
لم تحفل الخطّة بالكثير من الإصلاحات الموجعة، التي يشترطها عادةً الصندوق قبل الموافقة على منح قروضه. لكنّ الخطّة أبقت الباب مفتوحاً أمام هذا النوع من الشروط، من خلال الحديث عن عناوين عامّة يمكن أن تحمل في طيّاتها لاحقاً شروطا مؤلمة. ومن المتوقّع أن تكون هذه الشروط بالتحديد موضوع المفاوضات المقبلة مع الصندوق.

في كل الحالات، ما تعنيه كل هذه التطوّرات هو عدم وجود اتجاه جدّي على المدى الطويل لمعالجة مكامن الخلل البنيويّة في الاقتصاد اللبناني، لا بل يمكن القول إنّ السلطة الحاكمة لا تملك القدرة بجميع تناقضاتها على الدخول في هذه الورشة.

كما لا يوجد حتّى الآن أي معالجة مطروحة على المدى القصير للأزمة المعيشيّة المؤلمة على المستوى الشعبي، وهو ما يعني توقّع المزيد من الاحتجاجات خلال الفترة القادمة.

أمّا الطرح الوحيد القائم حتّى الآن فهو انتظار تمويل صندوق النقد لإنقاذ النظام المالي، مع كل ما يعنيه ذلك من شروط ستضيف من الضغوط على الفئات الأكثر هشاشة، خصوصاً أن شروط الصندوق لن تترافق مع معالجات جذريّة لمكامن الخلل في الاقتصاد اللبناني.

المساهمون