لبنان وشحّ المساعدات الخارجية

لبنان وشحّ المساعدات الخارجية

01 مايو 2020
الغلاء يطحن اللبنانين بلا رحمة (حسن بيضون/العربي الجديد)
+ الخط -


تعتبر المساعدات المالية الخارجية القشّة الوحيدة التي يتعلَّق بها لبنان ويعوِّل عليها لتسحبه إلى برّ الأمان وتنقذه من الانهيار الاقتصادي والمالي المتزامن مع جائحة كورونا، لكن هذه المرّة تختلف عن سابقاتها؛ حيث ينبغي على لبنان الموافقة على قائمة من الشروط القاسية ودفع ثمن باهظ للحصول على تلك المساعدات، بداية بإرضاء المانحين الدوليين من خلال تحجيم نفوذ حزب الله وصولاً إلى اتِّخاذ العديد من الإجراءات التقشُّفية التي ستُخرج المزيد من المواطنين المستائين إلى الشوارع، وهي خيارات أحلاها مرّ.

وقد دخلت صعوبة الحصول على المساعدات الأجنبية، لا سيَّما الخليجية منها، مرحلة أخطر من ذي قبل، في ظلّ سيناريو الانهيار التاريخي لأسعار النفط، فالكساد يضرب أطنابه في الدول الخليجية التي عادة ما تتولَّى مهمة دعم لبنان مالياً. 

والأمر لا يختلف كثيراً في الغرب المنشغل بتجميع أكبر قدر من الأموال للتصدِّي للدمار الاقتصادي والاجتماعي الذي تُخلِّفه جائحة كورونا، لذلك يتوقف حصول لبنان على المساعدات المالية من الخارج على الحدّ الذي سيتنازل فيه عن سيادة قراراته ومدى صرامته مع حزب الله، والذي يعتبر من ناحية أخرى بيدقاً في لعبة الشطرنج التي تلعبها إيران في المنطقة.

غالباً ما يتمّ إجهاض المساعدات المالية الموجَّهة للبنان قبل ولادتها من رحم الدول المانحة والمعادية لسياسات إيران، حيث يتردَّد المانحون الدوليون في توجيه مساعداتهم المالية للبنان بسبب سيطرة حزب الله غير المباشرة على السياسة الخارجية للبنان، فعلى سبيل المثال سبَّب فشل لبنان في إدانة الهجمات على البعثات الدبلوماسية السعودية في طهران تجميداً لمساعدات مالية سعودية بقيمة 3 مليارات دولار كانت ستُقدَّم للجيش اللبناني في عام 2016.

وتتمثل الإجابة الوحيدة والمقنعة للسيل المنهمر من التساؤلات عن المصير المجهول للمنح والقروض الدولية التي كان من المفترض أن تعيد الروح للاقتصاد اللبناني، في التمدُّد الكبير لنفوذ حزب الله في سورية واليمن والعراق، فقد تحوَّل حزب الله إلى جارٍ ملاحق لإسرائيل على الأراضي السورية، وجارٍ غير مرغوب فيه للمملكة السعودية على الأراضي اليمنية، وهذا ما يتمّ أخذه على محمل الجدّ من قبل الدول المانحة الحليفة لدولة الاحتلال والسعودية والدول الخليجية الموالية لها.

لقد دفع مأزق لبنان الاقتصادي رئيس الوزراء السابق سعد الحريري إلى طلب دعم مالي من عدد من الدول خلال عام 2019، لكن تلك الدول لم تحرِّك ساكناً تجاه لبنان الذي كان آنذاك قاب قوسين أو أدنى من الإفلاس، ومنذ ذلك الحين تسارعت وتيرة تردِّي الأوضاع الاقتصادية والمالية للبلاد، وبقي القطاع المصرفي اللبناني رهينة التحالفات السياسية وأسير الواجهة السياسية وحزب الله وضحية الفساد وسوء القرارات الحكومية، وما كان بيد الحكومة اللبنانية إلاَّ أن تعلن، في 7 مارس/آذار 2020، عن توقُّفها عن سداد مستحقات الديون السيادية بالعملة الصعبة، منها 1.2 مليار دولار من سندات اليوروبوند كانت مستحقة بعد يومين من ذلك الإعلان، وذلك لحماية احتياطي العملات الأجنبية المُقدَّر بـ 35.8 مليار دولار، علماً أنّ لبنان مُقيَّد بديون تبلغ قيمتها 92 مليار دولار ويحتاج ما بين 10 إلى 15 مليار دولار خلال السنوات الخمس المقبلة.

معادلة الأزمة اللبنانية تستعصي على الحلّ، والأرقام المخيفة التي وصلت إليها الديون الخارجية المترتِّبة على لبنان لا يمكن أن يتمّ تغطيتها بالفتات الذي تعِد الدول المانحة بتقديمه للبنان مقابل الركوع للشروط المجحفة.

ويمكن أخذ نظرة شاملة عن المبلغ المالي الذي توافق الدول المانحة مجتمعة على تقديمه للبنان من خلال الرجوع لمؤتمر سيدر الدولي لدعم الاقتصاد اللبناني الذي انعقد في العاصمة الفرنسية، في إبريل/نيسان 2018، والذي تمخَّض عن جمع ما قيمته 11 مليار دولار من المنح والقروض لتعزيز الاقتصاد والاستقرار في لبنان.

ويتألَّف ذلك المبلغ من 10.2 مليارات دولار كقروض و860 مليون دولار في شكل منح. وكانت المساهمات التي تعهَّدت بها الدول والمنظمات الدولية المشاركة في المؤتمر كالآتي: الاتحاد الأوروبي 1.5 مليار يورو، فرنسا 500 مليون يورو، هولندا 300 مليون يورو، بريطانيا 130 مليون يورو، ألمانيا 120 مليون يورو، إيطاليا 120 مليون يورو، تركيا 200 مليون دولار، السعودية 1 مليار دولار، الكويت 680 مليون دولار، الولايات المتحدة 115 مليون دولار، البنك الدولي 4 مليارات دولار، البنك الإسلامي للتنمية 750 مليون دولار، إضافة إلى منحٍ أخرى أعلنت فرنسا عن تقديمها لمساعدة الجيش اللبناني. وظلَّت كل هذه المبالغ مجرَّد حبر على ورق بسبب إصرار الجهات المانحة على موافقة لبنان على لائحة الشروط التي يترأَّسها إقصاء أو تعطيل نشاط حزب الله.

ووفقاً للمثل القائل "الكحل أهون من العمى" والذي ينطبق على الاقتصاد اللبناني الذي يبحث عن بصيص أمل ليتشبَّث به وسط الأزمات التي يتخبَّط فيها، يواصل الرئيس اللبناني ميشال عون مناشدة المانحين الدوليين الإفراج عن 11 مليار دولار من المنح والقروض التي تعهَّدوا بتقديمها للبنان خلال مؤتمر باريس في إبريل 2018، والذي تمَّ تنظيمه انصياعاً لدواعي دعم لبنان الذي يستضيف عددا كبيرا من اللاجئين السوريين.

ومع تراجع أهمية قضية اللاجئين أمام أزمتي النفط وكورونا اللتين تعصفان باقتصادات أهم الدول المانحة المُعوَّل عليها في فكّ الكرب عن الاقتصاد اللبناني، سيتعذَّر تقديم ذلك المبلغ كاملاً في الوقت الحالي، خصوصاً في ظلّ عجز الطرف اللبناني عن تقديم محفِّزات قوية، كتقليص نفوذ حزب الله، على طاولة المفاوضات الدولية.

خلاصة القول أنّه لا يوجد شيء مجَّاني في دهاليز السياسة وكواليس المصالح الجيوستراتيجية التي تفرض على لبنان تقديم تنازلات كبيرة مقابل الحصول على مساعدات مالية لن تكفيه حتى لسدّ حاجيات ستة أشهر من الاستهلاك.

يتطلَّب هذا المأزق المالي والاقتصادي والسياسي العصيب من الحكومة اللبنانية إظهار حنكة كبيرة في التعامل مع عناصر الأزمة وتطوُّراتها، لاسيَّما مع ارتفاع احتمالات حدوث السيناريو المتشائم الذي يفيد بوصول الركود إلى رقم من خانتين وتضاعف معدل التضخّم إلى 20 بالمائة، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بـ 10 بالمائة، وخسارة اللبنانيين أكثر من 50 بالمائة من قوتهم الشرائية على المدى الطويل، عوضاً عن الاكتفاء باتِّخاذ إجراءات هزلية كالاستيلاء على دولارات التحويلات المالية الخارجية الواردة إلى لبنان، المساس التعسُّفي بأموال المودعين وتقنين زراعة القنب الهندي.