خطر كورونا والسياسات الصحية

خطر كورونا والسياسات الصحية

07 ابريل 2020
الفحوصات الطبية على المواطنيين في باريس (Getty)
+ الخط -


سبب مرض كورونا خسائر اقتصادية هائلة، مؤثرا على قطاع الخدمات والإنتاج والتجارة، وتجاوزت التأثيرات المناطق التي تعد مركزا للمرض، وهو تأثر عالمي مرتبط بعولمة الاقتصاد وترابط حركة الأسواق وتتابع الأثر بينها. شمل التأثر كل مناطق العالم بلا استثناء. 

وتطرح أزمة كورونا بتأثيراتها العالمية، السياسات الصحية والخدمات العلاجية للنقاش بما فيها مخصصات بنود الصحة والعلاج والرعاية الطبية، بجانب سياسات مواجهة الكوارث البيئية والأمراض المعدية والفيروسات.

هذا النقاش المتزامن مع أزمة كورونا يعيد أيضا تقييم سياسات الرعاية الاجتماعية، خاصة مع استمرار موجة التقشف العالمي التي توسعت منذ الأزمة الاقتصادية العالمية في 2008، وما أثاره من ردود أفعال الحركات الاجتماعية ضدها في دول أوروبية، وما شهدته عدة مناطق بالعالم بعدها من نشاط لحركات اجتماعية تناهض العولمة الاقتصادية والسياسات النيوليبرالية الجديدة التي بدأت في التوسع منذ الألفية الثانية، وكانت اجتماعات دافوس عنوانا لها، وظهرت أمام تجليات آثارها حركات مضادة لها تمثلت شراراتها الأولى في فاعليات المنتدي الاجتماعي العالمي.

كانت أغلب دول أوروبا تمثل نموذجا لدولة الرفاه الاجتماعي التي تعد بتوفير الخدمات ومظلة التأمين الصحي والاجتماعي، إلا أنه وبالتزامن مع محطات تاريخية متعددة بداية من انهيار الاتحاد السوفيتي ثم الأزمة العالمية الأخيرة، تراجعت دولة الرفاه.

وسبق وأن طرحت نقاشات واسعة حول الرعاية الصحية بالولايات المتحدة قلب الرأسمالية، وكان أوباما بفضل طرح اجتماعي تضمن برنامجا للتأمين الصحي استطاع جمع أصوات ناخبين ساهموا في وصوله لمنصب الرئاسة، واليوم عاد بند التأمين الصحي للنقاش مرة أخرى في أميركا، وفي دول أخرى مواطنوها غير مشمولين بمظلة التأمين الصحي.
مما يطرح على السياسيين والمفكرين والمشتغلين بالاقتصاد مسألة السياسات الصحية من جديد، والتي تشمل الإجراءات والخطط في ضوء التوجهات التي تتبناها دولة ما لتوفير الخدمات العلاجية والصحية، كما تمثل للدول التي تهتم بأحداث تنمية شاملة تركز على الإنسان إحدى الأولويات الهامة.

ومن وجهة نظر منظمة الصحة العالمية تعتبر السياسات الصحية جزءا من عملية أكبر تهدف إلى مواءمة الأولويات القطرية مع الاحتياجات الصحية الفعلية للسكان، بهدف تقديم الرعاية الصحية.

وكانت من نتائج انتشار فيروس كورونا أن يفتح النقاش مرة أخرى حول الخدمات العلاجية والصحية، وكذلك توجهات الدول بشأنها، وأن يشارك جمهور واسع يتخطى السياسيين والعاملين بالقطاع الصحي في ضرورة توفير مظلة تأمين صحي يضمن مقاومة الأمراض، خاصة المعدية والمزمنة منها، فضلا عن الأوبئة والفيروسات.

سيشكل كورونا المصنف كوباء جانح دافعا لطرح المسألة الصحية بشكل جاد، وسيدعم الطرح القائل بأن الخدمات الصحية يجب أن ينظر إليها بشكل مغاير عن النظرة التي تم تسيدها بمنطق السوق، ووصفها سلعا تباع وتشترى دون خضوع لقواعد الضرورة أو الاحتياجات مكتفية بمنطق الربح.

وإن لم يكن الشعار الأثير "الإنسان قبل الأرباح" سوف يتم تبنيه، فإن تجربة كورونا تقول لنا إنه لا أرباح دون مجابهة الأمراض ومخاطر الأوبئة والفيروسات، وضرورة تعاضد الجهود العالمية لمواجهة مخاطر الأمراض.
أصبح شعار الصحة حقا للإنسان يجب أن تكفلها الدولة أو تعمل على كفالتها للمواطنين عبر سياسات تضمن تلبية الاحتياجات الصحية، شعار متجاوز الانتماء الايدلوجي.

بل إن فيروس كورونا طرح بشكل عملي مأزق السياسات الرأسمالية ومنطق الليبرالية الجديدة، ليعاد التفكير والاقتناع بأن وجود تخطيط صحي يضمن حماية البشرية من الفيروسات وضمان توافر العلاج لكل من يحتاجه أمر ملح، حتى لبقاء وحفظ أرباح أكثر القطاعات الاقتصادية سرعة وعبورا للجنسيات والقارات وأكثرها تشددا في الدعوة إلى سياسات الليبرالية الجديدة.

مع انهيار الاتحاد السوفيتي تم الترويج لمفهوم الحكم الرشيد في بداية التسعينيات من قبل المؤسسات المالية الدولية، صندوق النقد والبنك الدوليين، غير منظمات أممية، يقوم الأساس الفلسفي له على تعاون الدولة والقطاعين الخاص والأهلي على إحداث التنمية، بوصفها عملا مشتركا، وكان في جانب منه متزامنا مع انهيار الكتلة الاشتراكية، لكن هذا الطرح لم يؤت نتائج حقيقية، حل القطاع الخاص محل الدولة في تقديم الخدمات وتوسع في تسيير السوق وإدارة الاقتصاد.

عموما، اتسعت السياسات الليبرالية بشكل عالمي، واتسع معها عمليات التقشف بما فيها ما يمس القطاع الصحي وتخفيض بنوده، وتراجع أنظمة الوقاية والعلاج حتى في الدول التي كانت تعرف بدول الرفاه الاجتماعي، وتخطت الموجة الجديدة منتجيها المركز الرأسمالي في أميركا وأوروبا، وطبق في أغلب دول العالم، تأثرت الخدمات الصحية، زادت تسعيرتها وكذلك الأدوية التي شملت احتكارات وتنافسا حتى فيما يتعلق بفيروس كورونا المستجد، أصبحت الاستثمارات في القطاع الصحي والأدوية مربحة كالاتجار في المخدرات.

أما القطاع الخاص والشركات العالمية الكبرى اللذان يفترض أنهما حسب مفهوم الحكم الرشيد شريك في التنمية، لم يوليا اهتماما لدعم الأبحاث والدراسات المتعلقة بالمرض أو الأوبئة، مع مرض كورونا وخلال أسبوع واحد خسر عدد من أثرياء العالم ما يزيد عن 300 مليار دولار.

يكشف هنا فيروس كورونا وما خلفه من خسائر بشرية أن الاهتمام بمقاومة الأوبئة والأمراض التي يمكن أن تهدد البشرية ليس، وحسب، حقا لسكان كوكب الأرض ولا ضرورة للتنمية، ولكنه ضمان للكيانات الاقتصادية الكبيرة لكي تستمر في جني أرباحها.

سبق وأن قدم المفكر الاقتصادي فرنسيس أوتار ( 1925 -2017) تحليلا للأزمات العميقة التي يعانيها العالم، ورأى أن حلها واجب عالمي لتحقيق الصالح العام للإنسانية.

وهذا الطرح مهم فيما يخص أزمة كورونا، والتي تعلي من مفهوم صحة البشرية من أجل الصالح العام أيضا، خاصة مع تهديدات متعلقة بنقص الخدمات في ظل تفاقم الفقر عالميا، وتراجع معدلات التنمية في دول عدة، وكذلك تراجع الاهتمام بالسياسات الصحية التي تكفل الاحتياجات لسكان كل دولة، لم تكن الانتقادات الموجهة لقيم الفردانية الليبرالية وحرية السوق وتراجع التخطيط الصحي وأدوار الدول في توفير الخدمات أكثر إلحاحا من هذا الظرف الاستثنائي الذى يزحف فيه وباء كورونا مهددا الجميع.

يطرح أوتار رؤيته لمواجهة كوارث العالم عبر إعلان عالمي جديد يحقق الصالح العام للإنسانية، ويكمل ما توافقت عليه البشرية من إعلانات سابقة بشان الحقوق والحريات، ستكون الحركات الاجتماعية المطالبة بالتغيير وتحقيق النمو فاعلا حقيقيا لازم حكوماتها بتنفيذ ما يضمن حقوقها.

وبالتالي سيشكل ذلك الصالح العام لسكان الأرض، خاصة فيما يتعلق بمواجهة المخاطر المهددة لحياة البشر، وأظهرت تجربة كورونا الإحساس بالمسؤولية العالمية تجاه قضايا الصحة، ولعبت مصالح المتضررين اقتصاديا، دولا وشركات عابرة للقارات، دورا في محاولة حصار الخطر الذي يهدد الجميع.

المساهمون