لبنان يستنجد بصندوق "الشيطان"

لبنان يستنجد بصندوق "الشيطان"

03 مارس 2020
اجتماع وفد صندوق النقد رئيس الوزراء اللبناني (Getty)
+ الخط -

لا يتردَّد فريق صندوق النقد الدولي في التدخُّل عند وقوع أي بلد، ذي موقع جيوستراتيجي، في أزمة اقتصادية خانقة، فقد وصل ذلك الفريق إلى لبنان يوم 20 شباط/ فبراير 2020 لإجراء مفاوضات تهدف إلى مساعدة البلاد في احتواء أزمتها الاقتصادية والمالية.

وكالعادة تخوف اللبنانيون من هذه الخطوة، وخاصة أنه لا تخلو وصفات الصندوق التي يمنحها لأي اقتصاد مريض ومأزوم من التدابير التقشُّفية الصارمة التي بدلاً من أن تخرج البلاد من الأزمة تعمل على إخراج الحشود الشعبية إلى الشارع.

وتكاد تعدّ على الأصابع تلك الدول التي استنجدت بطوق الصندوق وتمكَّنت بعد معاناة من الخروج من بحر الأزمات الذي كانت تغرق فيه. 

طلبت الحكومة اللبنانية المشورة من صندوق النقد الدولي حول رسم خطة اقتصادية مستعجلة لإنقاذ الاقتصاد الذي يشارف على إعلان إفلاسه، والمساعدة في هيكلة وإدارة الدين العام الذي يتجاوز 150 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، وإصلاح ما يمكن إصلاحه في ما يتعلق بالسياسات التي أدَّت إلى تهاوي الليرة اللبنانية التي فقدت ما يقارب 60 بالمائة من قيمتها في الوقت الذي يقف فيه المواطن متخوِّفاً من أن يواصل الدولار ارتفاعه بثقة صوب 3000 ليرة.

وقد أبدت الحكومة اللبنانية في الجولة الأولى من محادثات 20 فبراير رغبتها بمقاومة قروض الصندوق المصحوبة بالقيود التي ستأسر حريتها في تحديد خياراتها وأولوياتها التنموية، وبالمقابل رحَّبت بكل الحلول البديلة رغم شبه انعدامها.
لكن واقع تبخُّر احتياطات العملة الصعبة بحلول نهاية العام والذي سيؤدِّي إلى استحالة دفع ثمن الواردات اللازمة، يضع لبنان أمام الخيار المرّ والمتمثل في قبول قروض صندوق النقد الدولي والذي يشبه إلى حدّ بعيد "خيار غاليلو"، فإما الموت وإما الخضوع.

وهذا ما يحدث تماماً عندما تنعدم الخيارات، حيث تضطرّ الحكومات، لا سيَّما العربية منها، إلى تجرُّع مرارة الوقوع بفخ وصفات الصندوق الذي يطلق عليه الشعب الأرجنتيني اسم "صندوق الشيطان" نتيجة للابتزاز الذي يمارسه على الدول المدينة والمتعثرة.

تقف الحكومة اللبنانية حائرة أمام مصيرها متسائلة عن مستقبل اقتصادها وهي تنظر إلى جيرانها الذين سبقوها إلى مقصلة صندوق النقد الدولي خلال العقد الماضي، فقد حصلت مصر على قرض من الصندوق بقيمة 12 مليار دولار على مدار 3 سنوات مقابل تطبيق شروط قاسية، كما حصل كل من الأردن وتونس على قرضين، حيث تجد بعض هذه الدول صعوبة كبيرة في سداد تلك القروض بسبب ضعف إيراداتها المالية وشحّ مواردها الطبيعية لا سيَّما تلك المتعلقة بالنفط والغاز.

لكن على الرغم من ذلك، فقد نالت الدول المقترضة الثناء من صندوق النقد نتيجة لاحترام شروط القروض الممنوحة لها، وكذا القيام بالإصلاحات المالية والنقدية التي تحاكي في صعوبتها المهمات المستحيلة، فقد قامت مصر في نوفمبر/ تشرين الثاني 2016 بتعويم الجنيه المصري الذي فقد بسرعة أكثر من نصف قيمته، كما فرضت الحكومة ضريبة القيمة المضافة على السلع والخدمات بناء على تعليمات الصندوق وبنسبة 13 بالمائة، تمّ رفعها بعد ذلك إلى 14 بالمائة، علاوة على خفض دعم الوقود والكهرباء والمياه وغيرها من السلع الضرورية.

والأمر سيان بالنسبة للأردن الذي خفض دعمه للوقود سنة 2012 ليكون مُؤهلاً للحصول على قرض من الصندوق، وهذا ما أدَّى إلى ارتفاع بعض الأسعار بنسبة تفوق 50 بالمائة بين عشية وضحاها، والأمور لا تختلف كثيراً في تونس التي رفعت الضرائب وخفضت الدعم وسمحت للدينار التونسي بالانخفاض.
وكما هو معلوم لم يتمكَّن أي بلد من هذه البلدان من الخروج من الأزمات المتلاحقة، بل على العكس، فالفقر في ازدياد، ومعدلات البطالة لا تزال مرتفعة بدرجة غير مقبولة، وهذا طبيعي نتيجة لتشتُّت تركيز حكومات هذه البلدان بين التقشُّف والتخفيض عوضاً عن القيام بالإصلاحات الهيكلية اللازمة والمطلوبة.

ولا تخفى على أحد سياسة التعتيم على الفقر التي تمارسها المنظمات الدولية والحكومات عند قبولها بقروض الصندوق التي يشتدّ ألمها على المواطنين البسطاء في المدى القصير ولا تحمد عقباها في المدى الطويل، ففي مصر تفيد الأرقام الحكومية بارتفاع معدل الفقر إلى 33 بالمائة في شهر يوليو/ تموز الماضي بعد قمع حكومي صاحب زيادات الأسعار امتدّ لفترة طويلة، وفي المقابل تفيد أرقام دولية بأن الفقر في مصر يتجاوز هذا المعدل كثيرا.

كما توقَّف الأردن عن نشر معدلات الفقر منذ سنة 2010، وتكاد تنعدم تلك التقارير الحديثة التي تُقدِّر عدد المواطنين التونسيين الذين يعيشون تحت خط الفقر.

كل هذا يشير إلى أنّ الحكومة اللبنانية ستنتهج الأسلوب نفسه حيال طمس الحقائق عن الفقر الذي سيتفشَّى في البلاد عقب قبول قروض الصندوق والرضوخ لشروطه المجحفة والموجعة والتي تتعارض تماماً مع ما يطالب به الشارع اللبناني في الوقت الحالي.

تشير نتائج الدورة الخامسة لاستطلاع الرأي الذي أجراه البارومتر العربي في نهاية عام 2019، إلى أنّ 60 بالمائة من المشاركين في الاستطلاع أفادوا بأنّ أداء الحكومة اللبنانية سيئ جدّاً من ناحية خفض الأسعار، وهي نسبة جدّ معتبرة، وأشار 76 بالمائة إلى أنّ الوضع الاقتصادي للبنان سيكون أسوأ بكثير مما هو عليه الآن في السنوات القليلة القادمة، كما أفاد 59 بالمائة بأنّ أداء الحكومة سيئ جدّاً في استحداث فرص عمل، وأكَّد 54 بالمائة على أنّ أداء حكومتهم جدّ سيئ في ما يخص تقليل الفجوة بين الأغنياء والفقراء.
وتعكس هذه الآراء مدى الإحباط الذي يشعر به معظم المواطنين اللبنانيين، وهم غير المستعدين لتلقِّي ضربة جديدة من الإجراءات التقشُّفية الموجعة أكثر من ذي قبل.

إذا وافق لبنان على القروض الجديدة التي ستمنح له من قبل صندوق النقد الدولي، ستتفاقم معدلات الفقر وينزلق أكثر من ثلث السكان نحو براثن الفقر، لا سيَّما في ظلّ غياب استراتيجية فعالة للتخفيف من أثر الضغوط التقشُّفية على الفئات المتوسطة والفقيرة، وهذا ما سيؤدِّي بدوره إلى استمرار المظاهرات الحاشدة في لبنان.

خلاصة القول إنّ الوضع السيئ الذي آل إليه الاقتصاد اللبناني ما هو إلا نتيجة تراكم السياسات التشويهية وسوء تسيير الموارد المتاحة والبكاء على أطلال الفرص الضائعة، والقروض التي يمكن أن تستلمها الحكومة اللبنانية من صندوق النقد الدولي لن تزيد الأمور إلّا تأزّماً وتعقيداً طالما يحرص صناع القرار في لبنان على إعداد ميزانية تقشفية تطاول جيوب الفقراء وتحافظ على امتيازات وثروات الأغنياء.

المساهمون