البضائع التركية والمصالح المصرية

البضائع التركية والمصالح المصرية

17 يناير 2020
ترهل صناعي في مصر (Getty)
+ الخط -
في ظل حرب شعواء تطلقها وسائل الإعلام المصرية ضد الدولة التركية عقب قرار إرسالها قوات لمساندة حكومة الوفاق الوطني بطرابلس ضد اللواء المتقاعد خليفة حفتر المدعوم من مصر والإمارات ودول أوروبية، تعالت الأصوات داخل مجلس النواب المصري، ودوائر شعبية محسوبة على السلطة لتنادي بمقاطعة الواردات التركية، كعقوبة اقتصادية على ما وصف بتهديد الأمن القومي المصري.

ورغم توتر العلاقات المصرية والتركية والخلافات السياسية العميقة منذ منتصف عام 2013 حرص الجانبان على استمرار التعاون الاقتصادي بين البلدين، إيمانا بالأهمية الاستراتيجية لكل منهما، وتطبيقا لنظرية المصالح المتبادلة، وطمعاً في تحسن مستقبلي للعلاقات السياسية مروراً من البوابة الاقتصادية. ورغم التطور المشهود في العلاقات الاقتصادية فقد كان الشد والجذب عنوانا خلفيا في بعض الأحيان.

مثلاً ألغت الحكومة المصرية العمل رسميا باتفاقية " الرورو" في إبريل/نيسان 2015، وهي الاتفاقية التي جرى توقيعها في أنقرة عام 2012 لمدة ثلاث سنوات قابلة للتجديد، وكانت تهدف لتسهيل نقل صادرات البلدين، واستغلال الموانئ المصرية لنقل الصادرات التركية، إلى دول الخليج وأسواق جنوب شرق آسيا، بعد أن أغلقت السلطات السورية المعابر أمام حركة التجارة التركية المتجهة إلى الخليج، وهو ما كان يعتبر خيارا إضافيا وليس أساسيا للصادرات التركية.

ووفق تقديرات اتحاد الغرف التجارية في مصر، أسفر تفعيل اتفاقية "الرورو" عن مرور نحو 46.8 ألف شاحنة تركية عبر الأراضي المصرية خلال ثلاث سنوات (عمر الاتفاقية)، بعائدات 46.8 مليون دولار.

وفي عام 2017 أصدرت وزارة الصناعة المصرية قراراً بفرض رسوم نهائية لمكافحة الإغراق على الواردات من صنف حديد التسليح (أسياخ ولفائف وقضبان وعيدان) المصدرة من أو ذات منشأ الصين وتركيا وأوكرانيا لمدة 5 سنوات.

ورغم التوتر السياسي اللافت والشد الاقتصادي الذي تمثل في إلغاء اتفاقية "الرورو"، إلا أن اتفاقية التجارة الحرة مع تركيا المبرمة عام 2005، والتي دخلت حيز النفاذ في يناير/كانون الثاني 2007 سارية حتى الآن، وهي الاتفاقية التي تلزم الطرفين بتخفيض الرسوم الجمركية جزئياً وبشكل سنوي وصولاً إلى الإعفاء الكلي في 2020، وهو ما طبقته السلطات المصرية فعليا مطلع العام.

ونتيجة للاتفاقية ارتفعت قيم التبادل التجاري بين البلدين من 753 مليون دولار عام 2006 إلى أكثر من 5 مليارات دولار عام 2018، كما زادت الصادرات المصرية بعد دخول الاتفاق حيز التنفيذ وبلغت أعلى قيمة لها في عام 2018 أكثر من 2 مليار دولار بزيادة تقارب 500% مقارنة بعام 2006.

وفي محطة هامة قام وفد من رجال الأعمال الأتراك بزيارة القاهرة في بداية عام 2017، بهدف إعادة الاستثمارات التركية لمصر، وتوجت الزيارة بتوسع عملاق الزجاج التركي "باشا بختشة" بإتمام صفقة استحواذ على إحدى الشركات المصرية المنتجة للزجاج بمدينة 6 أكتوبر وبقيمة 50 مليون دولار، في إطار ضخ الشركة لاستثمارات جديدة بمصر بقيمة تبلغ 100 مليون دولار، توفر 1200 فرصة عمل جديدة، فضلاً عن 650 فرصة عمل حالية بها.

كما وعدت مصر باستثمارات تركية تبلغ 5 مليارات دولار، لم تفعل حتى الآن، ويعود ذلك إلى مناخ الاستثمار في مصر والذي أدى الى هروب مجمل الاستثمارات الأجنبية وليس التركية فقط.

ورغم القفزات الكبيرة في حجم التبادل بين الدولتين، إلا أن محاولات رجال الأعمال المصريين إلغاء هذه الاتفاقيات ومنع دخول البضائع التركية لم تتوقف منذ عام 2015، سواء بمناشدة السلطة أو بدفع النواب المصريين لاستجواب الحكومة في المجلس.

وكان آخرهذه المحاولات ما تقدم به أحد النواب من سؤال لرئيس مجلس الوزراء ووزير التجارة بشأن مقاطعة البضائع التركية ردا على ما وصفه "بالتجاوزات التركية في المنطقة واتجاهها لنهب ثروات الشرق الأوسط ونشر الفوضى وزعزعة الاستقرار، خاصة أن السوق المصرية ليست بمعزل عن ما يحدث في تركيا لا سيما بعد السماح بإغراق البضائع التركية للسوق المصرية واعفائها من رسوم الجمارك، وليس من الحكمة السكوت عن ذلك من دولة تضر بالأمن القومي المصري"، على حد تعبير النائب، وتزامن ذلك مع صدور بيان منظمة مواطنين ضد الغلاء.

وفتح التوتر السياسي ومطالبات النواب ومناشدات رجال الأعمال بالمقاطعة باب التساؤل عن الآثار الإيجابية والسلبية لإقدام مصر على مقاطعة البضائع التركية في حال حدوثه.

رقميا تشير المقارنة بين المصالح المتبادلة بين الدولتين، إلى أن تركيا أصبحت الوجهة الثالثة عالميا للصادرات المصرية حيث تستقبل نحو 10% من جملة هذه الصادرات (25 مليار دولار)، بينما تستقبل مصر 1% فقط من جملة الصادرات التركية (180.5 مليار دولار)، كما بلغ عدد العاملين المصريين في المصانع التركية في مصر ما يقارب 40 ألف عامل طبقا لتقديرات، في حين لا توجد استثمارات مصرية تذكر في تركيا.

وفي حين يقدر السياح الأتراك إلى مصر ببضعة آلاف فقط من جملة 12 مليون سائح زاروا مصر عام 2019، فإن عدد السائحين المصريين إلى تركيا بلغ نحو 150 ألف سائح مصري، طبقا لجهاز الإحصاء التركي.

كما أن تراجع الأداء المنظور في بعض الموانئ المصرية خاصة ميناء شرق بورسعيد نتيجة أخطاء التسعير وانتقال بعض الخطوط الملاحية الكبرى إلى الموانئ المنافسة في اليونان وغيرها، يوضح أهمية الاتفاقيات البحرية بين الجانبين، وأن الغاء اتفاقية "الرورو" مع الجانب التركي رغم عوائدها الضعيفة مرحليا شكل مكايدة سياسية لم تأخذ المصلحة الاقتصادية في اعتبارها.

كما أن الاتفاق التركي الليبي في شقه المتعلق بترسيم الحدود البحرية ليس فقط غير مضر بالحقوق المصرية حسب بيان وزارة الخارجية المصرية، بل يرسخ ويوسع المياه الاقتصادية المصرية، في مقابل تقليص غير مبرر في حالة التحالف مع الجهة المناوئة، لا سيما في ظل إبرام الاتفاقية الثلاثية "ايست ميد" بين الكيان الصهيوني واليونان وقبرص وحمايتها بقانون صدر عن الكونغرس الأميركي، وهو ما يطيح بأحلام مصر كمركز إقليمي للطاقة لصالح الكيان الصهيوني، علاوة على التنازل المصري عن مساحة ضخمة من مياهها الاقتصادية.

وبذلك فإن الواقع يشير بوضوح إلى أن الأكثر تضررا من مقاطعة المنتجات التركية هو الجانب المصري، الذي سيفقد سوقا تصديرياً مهماً بالنسبة للاقتصاد المصري، ويتسبب في إعاشة عشرات الآلاف من العمال المصريين وأسرهم، بخلاف أهميته باستمرار العلاقات وتسوية الخلافات بشأن المياه الاقتصادية وحركة الملاحة.

إذاً السؤال: لماذا تتعالى الأصوات المنادية بمقاطعة المنتجات التركية استغلالا للتوتر السياسي؟

من وجهة نظر كثيرين فإن حالة الركود الشديد التي يمر بها السوق المصري منذ سنوات، إضافة إلى ما تتمتع به الواردات التركية من أسعار منخفضة بنحو 25% عن المنتج المحلي طبقا لتقارير الغرف التجارية، وجودتها المرتفعة ليس فقط في مقابل المنتج المحلي بل في مقابل أسواق الواردات التقليدية مثل الصين مثلاً هي الأسباب لمثل تلك المطالبات بمقاطعة السلع التركية.

كما أن البضائع التركية نجحت في النفاذ إلى السوق المصري من خلال العديد من المتاجر التركية التي تعمل به، وتبيع المنتج التركي الأرخص والأجود من السلع المصرية، سواء بالنسبة للملابس أو الصناعات المختلفة، لا سيما قطع غيار السيارات التي أصبحت تحتل المكانة الأولى تقريباً في السوق المصرية.

ومن وجهة نظري فإن السبب الحقيقي لبروز أفكار مقاطعة المنتجات التركية على السطح أن المنتج ورجل الأعمال المصري رسب في الاختبار التصنيعي أمام نظيره التركي، وهو ما جعل الغرف التجارية ورجال الأعمال وممثليهم في مجلس النواب يطالبون بالمقاطعة، وتعالي أصواتهم بوجود دعم حقيقي من الدولة التركية للصادرات وليس ورقياً كما في الحالة المصرية.

وفي تقديري كذلك فإن ما حدث في مصر من مطالبة بمقاطعة المنتجات التركية هو نوع من الانتهازية وخلط للأوراق للضغط على الحكومة المصرية للحصول على مزايا سوقية أكبر بإلغاء اتفاقية التجارة الحرة بين البلدين ومنع دخول البضائع التركية، وهو نوع من الاعتراف بالفشل وعدم القدرة على المواجهة، ليس فقط مع الواردات التركية، بل مع مجمل الواردات أيا كان مصدرها، بل هو فشل للأداء الصناعي المصري بصفة عامة، وهو ما يفتح باباً آخر للتساؤل حول دور الطبقة الرأسمالية المصرية.

لقد أوجد تزاوج السلطة المصرية مع رأس المال جنينا مشوها، ساهم الفساد والسلطوية في تنشئته الاحتكارية التي راكمت تشوهاته، فأصبح عبئاً على الجميع، فبدلاً من القيام بدوره الطبيعي في ترسيخ مفاهيم الإنتاج والجودة واستيعاب الداخلين الجدد إلى سوق العمل، والنهوض بمهارات العامل المصري، وتوفير السلع للجماهير بالجودة والأسعار المنافسة لتحل محل الواردات، وتخترق الأسواق العالمية، لتوفر على الدولة المتعثرة فاتورة النقد الأجنبي اللازم للاستيراد، وتجهيز بديل مستدام لهذا النقد اعتمادا على التصدير، أصبح كل هم هذه الطبقة استغلال الشعب المصري واستخدام السلطة السياسية لتمرير القرارات والقوانين التي ترسخ هذا الاستغلال.

أخيرا، يجب التأكيد علي أنه ليس من مصلحة الشعب المصري ورفاهيته مقاطعة أي سوق أجنبي، وليس من مصلحته أن يعيش المنتج المصري في ظل الحماية الضخمة التي أدت إلى ترهل القطاع الصناعي وعدم قدرته على المنافسة، وليس من مصلحته، ولا مصلحة الصناعة الوطنية استمرار طبقة رجال الأعمال على حالها النفعي والاستغلالي والاحتكاري، وليس من مصلحته كذلك استمرار دعم السلطة وتزاوجها بهذه الطبقة.

كما أنه ليس من مصلحة الشعب المصري استمرار قنابل الدخان السياسية للتغطية على هدر المياه والغاز والجزر الاستراتيجية، والدخول في تحالفات ثبت فشلها مع قوى الثورات المضادة لتطلعات وحقوق وأحلام الشعوب.

المساهمون