وقف حمّام الأرواح والثروات

وقف حمّام الأرواح والثروات

19 سبتمبر 2019
+ الخط -


عندما فتحت أسواق البورصات، يوم الأحد الماضي، هبط مؤشر الأسواق السعودية بنسبة 2.3%، كما ورد في الموقع الإلكتروني لقناة NBC الأميركية. وجاء ذلك كأول ردة فعل على الهجوم بالطائرات المسيّرة (Drones) الذي أعلن الحوثيون أنهم قاموا به، فجر يوم الجمعة الموافق 13 سبتمبر/أيلول الحالي، على موقعين لشركة أرامكو النفطية في السعودية. 

وفي مثال ورد على الموقع، ذكرت مراسلة القناة الأميركية من دبي، ناتاشا توراك، أن سعر النفط مرشّح للارتفاع من دولارين أو ثلاثة للبرميل حتى عشرة دولارات.

ويتماشى الحد الأدنى مع مقدرة السعودية على إعادة إحياء المعملَين الضخمين في بقيق وهجرة خريص إلى طاقتهما الإنتاجية المعهودة خلال أيام معدودة. أما الحد الأعلى، أو ارتفاع الأسعار بمقدار عشرة دولارات للبرميل الواحد، فسينتج عن طول المدة المطلوبة لإصلاح المعملين وإعادتهما إلى وضعهما الطبيعي. 

وفي صباح الاثنين، 16 سبتمبر/أيلول الحالي، وصل الحد الأقصى لارتفاع سعر نفط برنت إلى نحو 20%، ولكنه عاد واستقر في حدود 8% إلى 10%، وقد حصل هذا على الرغم من تغريدة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، أنه مستعد أن يستخدم الاحتياط البترولي الاستراتيجي (SPR).

ونزلت الأسعار ستة بالمائة يوم الثلاثاء، لكن الخسائر توقفت، أمس الأربعاء، بعد أن قالت الولايات المتحدة إنها تعتقد أن الهجوم على منشأتي النفط السعوديتين انطلق من جنوب غرب إيران. 
فلنضع الحقائق في نصابها: المعمل الأول في بقيق السعودي هو الذي يجهز النفط الخام ليصبح صالحاً للتصدير، وهو يعمل بطاقة قدرها، حدا أقصى، سبعة ملايين برميل في اليوم، ولكنه يعمل بطاقة خمسة ملايين برميل منذ شهر أغسطس/آب الماضي، وهو أكبر وسيلة نفطية من نوعها في العالم، ويبلغ إنتاجها اليومي 50% من مجموع إنتاج السعودية النفطي. وحرمان السعودية، ولو ليوم، لا بد وأن يُحدِث أثراً تصاعدياً على سعر النفط.

ووفق الإحصاءات العالمية، يبلغ مجموع الاحتياطات الاستراتيجية من النفط التي تحتفظ بها دول العالم 4.1 مليارات برميل، تملك الحكومات منها 1.4 مليار برميل، والباقي أو 2.7 مليار هي ملك للشركات الخاصة. وتملك الولايات المتحدة 727 مليون برميل كاحتياطي، متاح لدى الحكومة الأميركية ومُخَزّن تحت الأرض في ولاية لويزيانا وغيرها.

وإذا ثبت أن إمكانية إصلاح المعامل المعطوبة، بعد هجوم الحوثي عليها، يحتاج وقتاً طويلاً من شركة أرامكو لإصلاحه، فهذا يعني أن الدول لن تلجأ إلى استخدام المخزون الاستراتيجي لديها، ومن بينها الدول الأوروبية والصين والهند واليابان وكوريا الجنوبية خصوصا، وهم أكبر مستوردي النفط في العالم.

أما إذا ثبت أن في الوسع تصليح المعامل في أيام معدودات، فإن الدول، مثل الولايات المتحدة والهند والصين وأوروبا، تفضل سحب الفرق في الإمدادات من المخزون لديها، حتى تتجنب حدوث ارتفاع كبير في الأسعار.

أما العنصر الآخر المؤثر في أسعار النفط، نتيجة هجوم بقيق وخريص، فهو الرد العسكري الانتقامي الذي ستقوم به المملكة العربية السعودية وحلفاؤها من أجل ردع الحوثيين ونُصرائهم عن تكرار التجربة. 

والواقع أن الرد العسكري ضد الحوثيين ليس أمرا سهلا، ولا يمكن تنفيذ أي إجراء مفيد عسكرياً بدون إسقاط قتلى وجرحى من المدنيين. وهذا يؤدي إلى تباين في العمليات العسكرية الموجهة ضد أهدافٍ استراتيجية من الحوثيين في مقابل إجراءات انتقامية تقتل المدنيين من المملكة العربية السعودية وحلفائها. وحالة المدنيين في اليمن، حسب روايات منظمات الأمم المتحدة والمنظمات غير الحكومية الدولية، بائسة وخطيرة، وتنطوي على آلام إنسانية لا حدود لها.

وإذا جاء الرد السعودي بهدف استعادة توازن الردع مكلفاً بشرياً، فإن الحوثي سوف يعود إلى ضرب السعودية. وهكذا تصبح أماكن كثيرة في السعودية هدفاً للطائرات المسيّرة الحوثية وغيرها من الصواريخ في الأماكن القريبة من الحدود اليمنية، وفي الأماكن النفطية شرق المملكة، وهكذا تعم حالة من التوتر والذعر التي ستؤتي ثماراً مُرّة لمخططات المملكة، وتؤجل الحل في اليمن، وتفتح إمكانية التعاون بين الولايات المتحدة وإيران، خصوصا إذا خسر نتنياهو الانتخابات.

وإذا كانت إدارة الرئيس ترامب ترى أن استمرار التوتر ورفع أسعار النفط سيؤذي الاقتصاد الأميركي واقتصاد حلفائها، فإنها ربما تخفف من حدة المقاطعة للنفط الإيراني، وتسمح بتصدير كمياتٍ منه، وسوف تضغط، في الوقت نفسه، من أجل أن تزيد دول، مثل العراق والكويت، إنتاجها من النفط وتصديره.

ماذا سيحصل إذا استمر الوضع على هذا الحال، وعانت السعودية شهرا واحدا من تصدير نصف ما تصدّره الآن؟

لقد توقع صندوق النقد الدولي، بداية، أن يبلغ عجز موازنة السعودية عام 2019 حوالي 4.2% من الناتج المحلي الإجمالي، بافتراض تصدير 10.2 ملايين برميل في اليوم، وبسعر يقارب 65 دولاراً للبرميل. ولكن الصندوق في كل هذه الأرقام عاد وعدّل تقديراته في شهر مايو/أيار، ليقول إن العجز سوف يصل إلى 7.6%.

وقد رأينا أن العجز في الموازنة قد بلغ 4.6% عام 2018. ولكن إذا استمرت الحرب، وارتفعت كلفتها، وقلّ بيع النفط مددا أطول، فإن الموازنة السعودية مرشّحة لعجز قد يصل إلى أكثر من 10% من الناتج المحلي الإجمالي.
في المقابل، سوف تزداد توقعات المستثمرين في الأسواق المالية تشاؤماً، وستتعرض موازنة "أرامكو" لهزة كبيرة، تؤثر على مستقبل مشروعها لبيع أسهم، حتى للسعوديين أنفسهم، بأسعار أقل بكثير مما تشتهيه الشركة.

يصبّ مستقبل الحرب في اليمن مباشرة في مستقبل الاقتصاد السعودي. ولعل الأجدى أن تبدأ السعودية بجدّية في البحث عن حلولٍ لإيقاف نزيف الدم والأرواح والثروات في اليمن، حتى تبدأ منطقة الخليج في الاستقرار والهدوء.

المساهمون