القمح سلاح لإجهاض الربيع العربي

القمح سلاح لإجهاض الربيع العربي

19 اغسطس 2019
الغذاء يستخدم كسلاح وتكتيك حرب لإخضاع الأمم(الأناضول)
+ الخط -
الغذاء سلاح تستخدمه الدول الكبرى كوسيلة للسيطرة السياسية والتلاعب بإرادة الدولة الضعيفة. والدول التي تعتمد على غيرها في إمدادها بالغذاء معرّضة بدرجة أكبر للابتزاز السياسي والتبعية، وشعوبها أكثر تأثرًا بأمراض سوء التغذية والجوع.
وتدمير الأراضي الزراعية وإتلاف المحاصيل الغذائية والسيطرة على مصادر المياه من الوسائل القديمة لاستخدام الغذاء كسلاح وتكتيك حرب لإخضاع الأمم وهزيمة الجيوش.

وقد عبّر عن ذلك قديمًا السياسي الفرنسي الكونت دي ميرابو (1749- 1791) بقوله "جميع مشاكل السياسة تخرج من حبة القمح". وفي عام 1973 منع الملك السعودي فيصل بن عبد العزيز البترول عن الغرب من أجل القضية العربية العادلة، فرد كسينجر وزير الخارجية الأميركي بقوله "سنعطيهم بكل قطرة بترول حبة قمح".

في سورية والعراق وتونس، انتشرت الحرائق في حقول القمح، ابتداءً من أوائل شهر مايو الماضي وطوال موسم الحصاد، ودمرت مساحات واسعة قدرت بعشرات الآلاف من الهكتارات من الأراضي الزراعية المنزرعة بالقمح.

تجويع الشعب العراقي

العراق الذي يستهلك نحو 4.5 ملايين طن من القمح سنويا ويستورد ما بين ثلاثة إلى أربعة ملايين طن كل سنة، تكلف الموازنة العامة ما بين 750 إلى 900 مليون دولار، أطلق مشروعا وطنيا في سنة 2010 لتشجيع زراعة محصول القمح والاكتفاء الذاتي.

واعتمدت وزارة الزراعة برامج لإنتاج بذور عالية الإنتاج ومقاومة للملوحة والجفاف والأمراض. ونجح العراق في زراعة نحو 12 مليون دونم هذا العام ووصل الإنتاج إلى 4 ملايين و750 ألف طن.

بدأت الحرائق تنشب في حقول القمح بعد فترة قصير من توقعات وزارة الزراعة العراقية تبشر بزيادة محصول القمح المحلي إلى مستوى يمكن أن يحقق الاكتفاء الذاتي لأول مرة في تاريخ العراق الذي يعد رابع أكبر مستورد للقمح في المنطقة العربية، بعد مصر والجزائر والمغرب، وبالتالي يمكن تقليل كميات القمح المستورد أو التوقف تمامًا عن الاستيراد.

وقبل بدء موسم الحصاد بأيام، تعرضت حقول القمح في محافظات صلاح الدين وكركوك وديالى والموصل، إلى حرائق ممنهجة ومرعبة، وقال مسؤولون إنها متعمدة وتمت بأياد خارجية، ووصل عدد هذه الحرائق إلى أكثر من 328 حريقاً، وقتلت 15 فلاّحاً في مختلف البلدات التي تعرضت حقولها إلى الحرائق، وأجبرت مئات العائلات في عدة قرى على النزوح بسبب النيران.

وقالت إحصائيات وزارة الزراعة إن الحرائق أتت تمامًا على نحو 55 ألف دونم من حقول القمح في 12 محافظة، وأنقذ الدفاع المدني والأهالي نحو 2 مليون دونم من حقول القمح من الحرائق المشتعلة. وفي محافظة نينوى التي يُطلق عليها سلة خبز العراق وبها ما يقارب نصف مساحة الأراضي الزراعية في البلاد، فقد سجلت وقوع 270 حريقا أتت على 40 ألف دونم من حقول القمح وقتلت 10 فلاحين.

ووصف رئيس الاتحاد العام للجمعيّات الفلاحيّة الحرائق المشتعلة في حقول القمح بالمجازر، وقال إنها تهدف إلى خلق أزمة اقتصادية وزعزعة الأمن الغذائي العراقي وضرب الاستقرار والأمن القومي. وقال رئيس وزراء العراق الأسبق، إياد علاوي، في تغريدة له في حسابه على تويتر: "الرسالة باتت واضحة وهي: لن نسمح للعراق بأن يحقق الاكتفاء الذاتي".

تهجير السكان في سورية

نشبت الحرائق في حقول القمح في مايو/أيار الماضي مع بداية موسم حصاد مبشر بوفرة الإنتاج الذي لم يتحقق منذ ثلاثة عقود، رغم أن سورية كانت تكتفي ذاتيا من القمح قبل 10 سنوات، وبعد أخبار تؤكد تضاعف كميات المطر وإمكانية زيادة إنتاج القمح إلى ضعف الكميات المنتجة العام الماضي. وتركزت الحرائق أكثر في المحافظات الزراعية شمالي شرق خاصة في الرقة، الحسكة، دير الزور، إدلب وريف حماة الشمالي، الخاضعة لسيطرة المعارضة والواقعة تحت سيطرة الإدارة الذاتية، وهي المحافظات التي تعتبر سلة إنتاج القمح في سورية، إذ تُنتجُ نحو 60% من المحصول.

وبلغ عدد الحرائق أكثر من ألفي حريق، التهمت ثلث الأراضي الصالحة للزراعة في البلاد، وما يقدر بـ500 ألف دونم من حقول القمح، وهي تشكل حوالي 50% من مجمل المساحة المنزرعة بالقمح، وقتلت 10 أشخاص أثناء محاولاتهم إطفاء الحرائق المشتعلة. 

والتهمت الحرائق في محافظة إدلب الواقعة تحت سيطرة هيئة تحرير الشام وفصائل المعارضة نحو 50 بالمائة من مجمل الأراضي المزروعة بالقمح، ما يهدد الأمن الغذائي للسكان في إدلب بالخطر، حيث تعتمد على نحو 80 بالمائة من حاجتها للقمح من خارج المحافظة، بالشراء أو من خلال المساعدات.
يوجد إجماع على أن معظم الحرائق نشبت بفعل فاعل، وليس بفعل حرارة الصيف، ويقول السكان إن النيران اشتعلت في حقول القمح السورية ولم تشتعل في حقول القمح التركية المتاخمة على الحدود مع سورية، ما يعني أن حرارة الطقس بريئة من الحرائق.

لم تعلن قوة من الموجودة في سورية مسؤوليتها عن الحرائق، ولكنها متهمة جميعًا بحرق القمح في مناطق الإدارة الذاتية دون غيرها من المناطق. اتهمت المعارضة النظام السوري بتعمّد قصف الأراضي المنزرعة بالقمح بالنابالم الحارق والقنابل العنقودية، بهدف تجويع المدنيين وتركيعهم واستسلامهم.
وألقى الأهالي القبض على أفراد من قوات الأمن الداخلي في المناطق الكردية، وبعضهم يتهم عناصر داعش. ويقول آخرون إن بعض الحقول المشتعلة تكون في قرى تقع تحت سيطرة قوات قسد المدعومة من الولايات المتحدة، والأخيرة تغض الطرف ولا تساهم في إطفاء الحرائق المشتعلة في حقول القمح.

الأمم المتحدة وثقت جرائم حرق حقول القمح في مناطق المعارضة وكشفت عن الهدف من وراء إشعال الحرائق، ولكنها ترفّعت عن فضح الجاني، واكتفت بالقول إن مقاتلين أحرقوا آلاف الفدادين من القمح في إدلب وشمال حماة وقتلوا العشرات، وأجبروا ما لا يقل عن 300 ألف شخص على الفرار من ديارهم، ومنعوا المزارعين من الوصول إلى حقولهم وحصاد المحاصيل المتبقية، واعتبرت أن أخذ السكان المدنيين رهينة باستخدام الغذاء وتوزيعه سلاح حرب أمر غير مقبول.

إرباك السياسة في تونس
تونس مهد الربيع العربي ورحمه الذي ولدت منه ثورات المنطقة. ومع إعلان وزارة الزراعة التونسية توقعات بإنتاج كميات قياسية من محصول القمح المحلي ما سيؤدي إلى انخفاض الواردات الأجنبية، شبت سلسلة من الحرائق غير المسبوقة في حقول القمح والتي أتت على مساحات واسعة في مناطق مختلفة من تونس، وبلغت المساحات التي أتلفتها الحرائق 514 هكتاراً، وفق وزير الفلاحة والموارد المائية التونسي.

تزعم الحكومة أن الحرائق طبيعية نتيجة الظروف المناخية، لكن أعضاء النقابة الفلاحية ينفون، ويعتبرون حرائق القمح محاولة لإرباك المشهد السياسي، لا سيما أن المغرب والجزائر لم تندلع فيهما حرائق مماثلة، رغم أنهما تشهدان ظروفاً مناخية مشابهة لتونس.
تملّك المزارعين في تونس الخوف والقلق على محصولهم الذي تهدّده الحرائق في الحقول البعيدة عن بيوتهم، لدرجة أن رئيس النقابة التونسية للفلاحين طالب باستحداث قوات شرطة زراعية تختص بحماية المحاصيل الزراعية من الحرائق، وكذلك تمكين المزارعين من حيازة الأسلحة ليتمكنوا من حماية محاصيلهم من التلف، لا سيما أن تونس لم تعرف حرائق في حقول القمح عندما كان الوضع السياسي مستقرا.

التكريس لتبعية مصر 
قبل موسم حصاد القمح سنة 2013 قال وزير التموين، د. باسم عودة، إن أولوية مصر بعد الثورة تغيرت تماماً إلى مساندة ودعم الفلاح المصري لتحقيق الربح الكافي من زراعة القمح، كونها سلعة استراتيجية وركيزة أساسية من ركائز الأمن القومي المصري، وتوقع زيادة المحصول إلى 9.5 ملايين طن، وهي كمية غير مسبوقة في تاريخ مصر التي تعد أكبر مستورد للقمح في العالم.

ومع بداية موسم الحصاد، وفي أحد حقول القمح، وفي مشهد لم تعهده مصر من رئيس سابق، وقف الرئيس محمد مرسي ليفتتح موسم حصاد القمح وقال: "من يريد أن يكون عنده إرادة لازم ينتج غذاءه.. أوقفنا استيراد مليون طن من القمح، ونستهدف بعد أربع سنوات ألا نستورد قمحا".
وفي عهده زاد محصول القمح بنسبة 30% عن موسم 2012، بحسب إحصائيات وزارة الزراعة الأميركية.

بعد هذه الأخبار المتفائلة انتشرت الحرائق في حقول القمح في معظم محافظات الجمهورية، وقال مزارعون إنها اشتعلت بفعل فاعل. وقام سماسرة بشراء كميات كبيرة من القمح من المزارعين بالمخالفة للقانون وبسعر يفوق السعر الذي حددته الحكومة، ثم أعدموه ومنعوا تسليمه لوزارة التموين.

وبعد أيام من الانقلاب العسكري في يوليو 2013، قال اللواء محمد أبو شادي وزير التموين في مقابلة مع رويترز، "إن وقف استيراد القمح في عهد حكومة الرئيس المعزول محمد مرسي كان من أكبر أخطاء الوزارة السابقة". 
وقال وزير التموين اللاحق له: "لا يجب أن يكون عندنا اكتفاء ذاتي من القمح، وليس من مصلحة مصر أن تكتفي ذاتياً من القمح".

وفي عهد الجنرال السيسي تراجعت مساحة القمح بنسبة 25%، وزاد الاستيراد بمعدل 4 ملايين طن.
رغبة الرئيس مرسي في امتلاك مصر إرادتها والاكتفاء من القمح كان خطا أحمر وأحد أسباب الانقلاب عليه.
وقد نقل الكاتب الصحافي المصري، وائل قنديل، عن وزير زراعة سابق لم يسمه، قوله "إن اكتفاء مصر ذاتياً من القمح ممنوع بالأمر الأميركي كي تبقى مصر سجينة التبعية الغذائية ومن ثم التبعية السياسية".

وروى قنديل حكاية قال فيها إن آل غور، نائب الرئيس الأميركي بيل كلينتون، زار مشروع توشكى برفقة وزير الري المصري محمود أبو زيد.

وسأل آل غور الوزير: ماذا أنتم فاعلون بهذه الأراضي؟ فرد الأخير: نخطط لزراعتها قمحاً. ابتلع آل غور الإجابة، من دون أن يعلق، وبعد أقل من ساعة من العودة إلى القاهرة اتصل وزير الزراعة في ذلك الوقت، يوسف والي، بالوزير وسأله بغضب: هل تحدثت مع نائب الرئيس الأميركي عن زراعة توشكى بالقمح؟ فرد: نعم. فقال له والي: "بالبلدي كده، ما تبقاش تتدخل في اللي مالكش فيه تاني".

المساهمون