الموضوعية في تقييم الاقتصاد

الموضوعية في تقييم الاقتصاد

12 يونيو 2019
"بارنز آند نوبل" بيعت لـإليوت أدفايزرز" (Getty)
+ الخط -

يوم الجمعة الماضي، تم الإعلان عن استحواذ صندوق التحوط "إليوت أدفايزرز" Elliott Advisors على مكتبات "بارنز آند نوبل" Barnes & Noble الشهيرة، مقابل مبلغ مالي يقدر بحوالي 638 مليون دولار، في وقتٍ كان العديد من المحللين يرون أن المكتبة، التي تأسست قبل ما يقرب من قرنٍ ونصف، وتمتلك 627 فرعاً في الولايات المتحدة، "على وشك الانهيار والإفلاس".

وعند التقدم للشراء، عرض المشترون سعراً يبلغ حوالي 142% من قيمة المكتبة الأشهر في الولايات المتحدة، وربما العالم، كما أظهرتها القيمة السوقية لأسهمها المتداولة في البورصة الأميركية وقتها.

لم يتهم أحد صندوق التحوّط بالجنون، أو الانحياز، أو أنه صاحب غرض، حين عرض سعر 6.5 دولارات للسهم، الذي أنهى تعاملات اليوم على سعر 4.19 دولارات، قبل الإعلان عن عرض الشراء. فذلك تقديره للسهم، أو للشركة، وتلك طبيعة الأسواق حول العالم، وكل الأسواق لا أسواق المال وحدها. وفي وقت قرر الصندوق دفع 6.5 دولارات للسهم، رفض كل المستثمرين في البورصة شراءه بسعر 4.2 دولارات، فاستقر عند 4.19 دولارات.

وعند تنفيذ أي عملية بالبورصة، يشتري المستثمر عند سعر معين، لتوقعه أن هذا السعر مناسب للشراء، وأنه سيرتفع في الفترة القادمة، بينما يتوقع البائع أن السعر نفسه مناسب للبيع، ولو توقع ارتفاعه سنتاً واحداً في المستقبل، لأَخَّر عملية البيع.
نفس الأمر يسري على كل المعاملات التجارية، إذ لا يتم بيع أو شراء سيارة أو عقار أو أي سلعة أخرى، إلا عندما تختلف توقعات البائع والمشتري لتحركات السعر في المستقبل، فيقرر أحدهما البيع، ويقرر الآخر الشراء.

تلك طبيعة الأسواق، ومأساة التحليل الاقتصادي، التي تجعل شخصين، ممن يرون نفس الأرقام، يعتبر أحدهما أن اقتصاد تلك الدولة ينهار، ولا سبيل لإنقاذه، بينما يرى الآخر أن اقتصادها في ازدهار، وحياة المواطنين وردية!

يحدث ذلك في الحالات العادية، فما بالك وبين الطرفين كم لا بأس به من الانقسام والعداء والدماء، فهل ينتظر عاقل منهما أي موضوعية أو حياد؟

بعد مقال وزير الاستثمار المصري السابق يحيى حامد على موقع "فورين بوليسي"، اتهمه الكثير من الاقتصاديين بعدم الموضوعية، وبإغفاله الكثير من الإيجابيات، وتناسى هؤلاء أنهم هم أنفسهم، انتقدوا الأوضاع الاقتصادية، حين كان هذا الوزير وحزبه في الحكم، بنفس القدر من عدم الموضوعية والرؤية السلبية والانحياز الذي يتهمونه به، إن لم يكن أكثر.

انتقد هؤلاء الوزير السابق وحزبه ورئيسه محمد مرسي، لأسباب حقيقية وأخرى مغلوطة ومختلقة، بأساليب مهذبة وأخرى غير أخلاقية، انتقدوهم لأنهم لم يقبلوا بهم رغم وصولهم عن طريق الانتخابات، وأعلنوا رغبتهم في إبعادهم عن السلطة بأي طريقة.

حتى إذا تم لهم ما أرادوا، وكتب الوزير السابق مقال رأي بعد سنوات من انقلاب الأوضاع، عبر فيه عن "رؤيته" للظروف الاقتصادية، مستعيناً بأرقام صحيحة صادرة عن البنك الدولي وبعض الجهات الحكومية، انهالوا عليه بالسباب، هو وحزبه، واتهموه بما فعلوا هم قبل ست أو 7 سنوات!
ثم جاء الرد من وزيرة التخطيط والمتابعة والإصلاح الإداري الحالية هالة السعيد، باللغة الإنكليزية، ليتضح لنا من هو المُخَاطَب في الرد، ولتكمل الهجوم على شخص الوزير السابق، مستعينة بأرقام رسمية أيضاً، ولكن من وجهة نظرها، التي تحاول إقناع القارئ بحيادها.

وبعيداً عن الخوض في تفاصيل الأرقام التي ذكرتها الوزيرة، لفت نظري بعض النقاط المطروحة، التي تؤكد التلاعب بالألفاظ والأرقام، لإعطاء صورة غير حقيقية، لقضية لم تكن خاسرة لدرجة اللجوء لمحاولات الخداع.

أولاً، تؤكد الوزيرة أن برنامج الإصلاح الاقتصادي "تم إعداده من قبل فريق اقتصادي محلي"، رغم أن الجميع يعلم أن البرنامج وضع أغلبه صندوق النقد الدولي، اللهم إلا لو كانت الوزيرة تقصد أن من قام بإعداد البرنامج هو فريق من العاملين بصندوق النقد ممن يحملون جنسية بلدنا، وهو ما قد يكون صحيحاً، إلا أنه بعيد كل البعد عن المعنى الذي يصل إلى قارئ كلمات الوزيرة.

ثم جاءت إشارة الوزيرة إلى ارتفاع معدل نمو الاقتصاد بنسبة تفوق معدل نمو السكان، الأمر الذي أدى، وفقاً لتقديرات وزارة الوزيرة، إلى زيادة نصيب الفرد من الدخل القومي بحوالي 2.2%، ولم تتطرق الوزيرة في ردها، الذي جاء في 1274 كلمة، لموضوع التضخم، ولم تذكر الكلمة على الإطلاق، رغم أن الفترة التي تتباهي بها وصل فيها معدل التضخم في بعض الأحيان إلى أكثر من 34%، قبل أن يستقر عند 14%، وهو الأحق بالملاحظة إذا أردنا أن نعرف ما حدث للفرد، كنتيجة للنمو الاقتصادي.

تقارن الوزيرة معدل النمو الاقتصادي وعجز الموازنة في زمانها بنظيريهما في 2012-2013، وهي تعي أن الفترات التي تلي الثورات تشهد تباطؤ الاقتصاد، وتراجع الإنتاج، كما ارتفاع عجز الموازنة.

وتتباهى الوزيرة بتحقيق فائض أولي، وهي تعلم أن هذا الفائض لا قيمة له طالما لم تكن هناك زيادة (حقيقية) في المبالغ المخصصة للإنفاق على ما يفيد المواطن من صحة وتعليم وبنية تحتية.

تتكلم الوزيرة مستخدمة الأرقام المطلقة عند الحديث عن الدعم الموجه للمواطنين، فإذا انتقلت بحديثها إلى الديون الخارجية أو العامة، لا تذكرها إلا كنسب من الناتج المحلي الإجمالي. تصور الوزيرة لنا أن الإنفاق الاستثماري تضاعف ثلاث مرات خلال السنوات الأربع الأخيرة، ولا تذكر لنا ما حدث في سعر العملة المحلية مقابل الدولار خلال نفس الفترة.
وأخيراً، تؤكد الوزيرة أن احتياطي النقد الأجنبي ارتفع بما يقرب من 30 مليار دولار، خلال خمس سنوات، وتتجاهل زيادة الدين الخارجي بأكثر من 50 مليار دولار خلال نفس الفترة.

لا أشك للحظة في وعي الوزيرة بكل ما ذكرت، ولا أعتقد بعفوية ما كَتَبَت. وإذا كان الأمر كذلك، فإن التلاعب يكون متعمداً، وهو ما يدعوني إلى الميل للاقتناع بتحليل الوزير السابق، الذي خلا من أي تلاعب بالأرقام أو الألفاظ، وإن كنت أرفض ما خلص إليه من اقتراب الاقتصاد من الانهيار.

المساهمون