الدَّيْن... هم بالليل ومذلة بالنهار

الدَّيْن... هم بالليل ومذلة بالنهار

26 مارس 2019
عالم الأنثروبولوجيا الأميركي، ديفيد غرايبر (Getty)
+ الخط -
في كتابه "الدَّيْن"، يفند عالم الأنثروبولوجيا الأميركي، ديفيد غرايبر، فكرة تقول إن اختراع النقود جاء ليسهل المعاملات التجارية، بدلاً من المقايضة التي كانت منتشرة قبل اختراع النقود. وفي معرض تحديه للفكرة، يتطرق الكاتب، الذي يُدَرِّس حالياً بكلية لندن للاقتصاد، إلى مفهوم الدَّيْن، دافعاً بحقيقة تاريخية، تؤكد أن الدَّيْن ظهر إلى الوجود قبل اختراع النقود بسنوات.

وفي الصفحات الأولى من الكتاب العظيم، يستعرض غرايبر بعض المحطات التاريخية التي مهدت لظهور مبدأ الاستدانة، على مستوى الأفراد والحكومات، وصولاً إلى الوقت الحالي، الذي أصبح الدَّيْن فيه أمراً طبيعياً ومعتاداً، وأحياناً من دون وجود حاجة ملحة للاقتراض.

يقول غرايبر إن الأمر في صورته الحالية بدأ مع أزمة النفط في السبعينيات، ويقصد بها ارتفاع أسعار النفط، مع انطلاق الرصاصة الأولى في حرب أكتوبر/تشرين الأول من عام 1973، حين استفادت الدول المصدرة للنفط من ارتفاع أسعاره وحصلت على مبالغ طائلة، لم تكن تتوقعها ولا أعدت نفسها لاستقبالها، فانتهى بها الأمر مودعةً تلك الأموال في صورة ودائع لدى البنوك الغربية، وتحديداً في بريطانيا وسويسرا والولايات المتحدة، وهي الأموال التي عُرفت وقتها باسم بترودولارز، أو الدولارات الناتجة من عمليات تصدير النفط.
وتسببت ضخامة الأموال المراد استثمارها وقتها في حيرة شديدة للمصارف الكبرى، وعلى رأسها مصرفا سيتي بنك وتشيس، اللذان أرسلا بدورهما موظفيهما حول العالم، لإقناع "طغاة الحكام والسياسيين" في العالم الثالث، على حد تعبير الكاتب، لإقناعهم بالاقتراض.

وبدأ الإقراض وقتها بمعدلات فائدة منخفضة لتشجيع المقترضين، قبل أن ترتفع تلك المعدلات إلى مستويات تجاوزت 20% في بعض الأحيان خلال الثمانينات وما تلاها، وهو ما أدى إلى أزمة ديون العالم الثالث في أواخر الثمانينات وأوائل التسعينات من القرن الماضي.

يقول غرايبر، إن صندوق النقد الدولي تدخل وقتها، ليمنع أي نوع من إعادة التمويل للدول المأزومة، إلا بعد إجبارها على إلغاء الدعم عن الأغذية الأساسية، وإلغاء أي سياسات تفرض الاحتفاظ باحتياطيات استراتيجية من الأغذية، وإيقاف أنظمة العلاج والتعليم المجاني، وهو ما تسبب في "انهيار أكثر أنواع الدعم أهمية لأضعف الفئات على الأرض".

وتحدث الكاتب أيضاً عن الفقر، ونهب الموارد العامة، وانهيار المجتمعات، وانتشار العنف وسوء التغذية واليأس وتهدم حياة الأسر، بفعل سياسات الإقراض التي فرضتها البنوك الغربية، ودعمها صندوق النقد الدولي.
وأشار الكاتب إلى مشاركته في بعض الحركات الاحتجاجية الهادفة إلى منع صندوق النقد من فرض سياسات الضبط الهيكلي، والتي يقصد بها إلغاء الدعم وتحرير أسعار الوقود والعلاج والتعليم وتعويم العملات المحلية، كونها المتسبب الأول، من وجهة نظره، في الخسائر المباشرة لتلك الدول. كما أنه لم يخف نيته، ومن معه في تلك الحركات، العمل على إلغاء صندوق النقد الدولي تماماً.

ولفت غرايبر نظر قارئ كتابه إلى أن أغلب القروض التي حصلت عليها دول العالم الثالث "اقترضها حكام لم يتم انتخابهم بصورة صحيحة، وذهبت نسب كبيرة منها إلى حساباتهم الشخصية في بنوك سويسرا.

وتساءل إذا ما كان من العدل الإصرار على تحصيل تلك القروض، بفوائدها المركبة، لا من الحكام الطغاة أو حاشيتهم (وهو اللفظ المهذب الذي اخترته لترجمة المعنى المفهوم)، وإنما عن طريق حرمان الأطفال الجياع من الطعام.

واستمر غرايبر في إبراز حقائق، كان يفترض أن تكون بديهية، لكنها غابت مع أزمات ضعف الكفاءة، واللامبالاة، والجشع، عن متخذي القرار في دول العالم الثالث، مشيراً إلى ما تتحمله الدول الفقيرة، التي تضطر إلى اللجوء للاقتراض، من تكلفة مادية، إذ تسدد ثلاثة أو أربعة أضعاف ما يتم اقتراضه، ولكن بفعل "معجزة" الفائدة المركبة، تكتشف تلك الدول أنها لم تسدد إلا الفتات من أصل ما تم اقتراضه.

أعرف جيداً الوضع الاقتصادي الذي تمر به الدول التي تلجأ للاقتراض، وتضطر إلى الرضوخ لتوجهات صندوق النقد الدولي، لكن هناك فارقا كبيرا بين توفير القروض، واشتراط تنفيذ سياسات السوق الحرة، شديدة الانفتاح، التي تم وضعها في واشنطن، ولم يُستطلع رأي الشعوب فيها، من أجل توفير القروض.
لا يمكن تبرير ضغط الحكومات الغربية على دول العالم الثالث من أجل وضع دساتير ديمقراطية، وإجراء انتخابات حقيقية، ثم الإصرار بعد ذلك على أنه، بغض النظر عمن يتم انتخابه، فلن يسمح لهم بوضع سياسات بلادهم الاقتصادية. وفي نهاية المطاف، سيتعين عليهم، وحدهم هذه المرة، إصلاح الأمر كله، وسداد ما تم اقتراضه، حتى في حالة فشل السياسات الاقتصادية التي فرضها صندوق النقد الدولي.

وفي أطرف أجزاء الكتاب، يطعن غرايبر في فرضية "أنه يتعين سداد الديون على أية حال"، ويرى أن ذلك يتعارض حتى مع النظرية الاقتصادية الأساسية، لأن المقرض يعلم بالأساس أنه يتحمل شيئاً من المخاطرة عند قيامه بالإقراض. ويضيف: "فإذا كانت كل القروض واجبة السداد، بغض النظر عن هزليتها، وإذا لم تكن هناك قوانين للتعثر والإفلاس، فسيكون لذلك نتائج كارثية. ما الذي سيمنع المقرضين حينئذٍ من إقراض كل من هب ودب؟".

كتب جرايبر في وقت لم تكن مصر قد حصلت فيه على قرض الصندوق وما تلاه من قروض، ولا عومت الجنيه، ولا حررت أسعار الوقود، ولا اتخذت أي خطوات باتجاه إلغاء الدعم، ومع ذلك فقد جاءت أجزاء كثيرة منه مطابقة لسيناريو ما حدث في مصر.

فهل ترانا نطمع في أن تكمل الحكومة، في وقت ما، السيناريو المكتوب في الكتاب، وتمتنع عن رد كل أو بعض ما تم اقتراضه في السنوات الأخيرة، خاصة ما جاء منه من حكومات يعلم الجميع حقيقة دورها في تدمير قدرات الاقتصاد المصري، واستنزاف موارده، لصالح مستثمريها، وحجم ما حصلت عليه بالفعل من مكاسب معنوية مهولة، في سبيل توفير تلك القروض؟

المساهمون