عواقب التدخل الأميركي في مفاوضات سد النهضة

عواقب التدخل الأميركي في مفاوضات سد النهضة

27 ديسمبر 2019
مفاوضات الوفود المصرية والأثيوبية والسودانية بالخرطوم (Getty)
+ الخط -


دخلت مفاوضات سد النهضة المرحلة الحاسمة بالتحاق الولايات المتحدة بقطارها الذي انطلق في منتصف عام 2014، وتوقف خلال رحلته المستمرة منذ أكثر من خمس سنوات في 22 محطة، تلاقت فيها أطراف الأزمة الثلاثة لإيجاد حل للأزمة المشتعلة ولكن دون جدوى. 

فمن ناحية، اقترب المفاوض الإثيوبي من إتمام بناء السد دون انتظار لدراسات عدم الضرر وأمان السد، ومن ناحية أخرى، يعول الجنرال عبد الفتاح السيسي على الحليف الأميركي القديم لمصر في دعم موقفه الضعيف، وإنقاذ شعبيته التي تراجعت بشدة بعد اتهام المقاول والفنان محمد علي له ولزوجته بإهدار مليارات الجنيهات من المال العام في بناء قصور رئاسية بالتواطؤ مع الإدارة الهندسية التابعة للقوات المسلحة، ودعا علي إلى مظاهرات ضده وكانت أقواها تلك التي اندلعت بقوة في 20 سبتمبر/ أيلول الماضي.

يضع السيسي ثقته الكاملة في الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، ووصفه بأنه رجل من طراز فريد ويمتلك القوة لمواجهة الأزمات والتعامل معها وإيجاد حلول حاسمة لها. ولكن مبالغة السيسي في إطراء ترامب بكلمات لم يسبق أن نعته بها أحد، ولا من أعضاء حزبه الجمهوري، يكشف عن الموقف المرتبك الذي يواجه السيسي، وفقدان مصر كل أوراق الضغط في مواجهة المفاوض الإثيوبي قبل أشهر قليلة من انتهاء البناء في السد وبداية التشغيل الفعلي في منتصف 2020.

رقيب وليس وسيطاً

طالب السيسي بإشراك الولايات المتحدة كوسيط في المفاوضات الدائرة حول السد للضغط على إثيوبيا من أجل قبولها زيادة عدد سنوات الملء الأول إلى 7 سنوات، والسماح بتمرير 40 مليار متر مكعب من المياه، والمحافظة على مستوى مياه بحيرة السد العالي عند 165 متراً، وهو المستوى الذي يضمن استمرار توليد الكهرباء من السد ويوفر كميات المياه المطلوبة لأغراض الزراعة والصناعة والشرب في مصر.
في البداية رفضت إثيوبيا مبدأ الوساطة الذي يمكن أن يغير مسار المفاوضات العبثية إلى مفاوضات جادة، وتمسكت بالمادة 10 من إعلان المبادئ الموقّع في مارس 2015 والذي يعطيها الحق في رفض أي وسيط أجنبي يمكن أن يعرقل بناء السد، أو يطالبها بالتزام مكتوب يضمن حقوق مصر والسودان في مياه النيل.

ثم قبلت إشراك الولايات المتحدة بصفة مراقب، وليس وسيطاً، على أن تكون مهمتها الرقابة مع البنك الدولي على تطبيق مبادئ اتفاق مارس 2015، والذي يحصر المفاوضات في نقطتين اثنتين لا غير، الأولى عدد سنوات الملء الأول، والثانية قواعد التشغيل، دون إدخال أي تعديلات على الاتفاق يكون من شأنها الاعتراف بحصة مصر التاريخية في مياه النيل، أو تخفيض حجم السد لأقل من 74 مليار متر مكعب.

فكرة أميركية

يظن البعض أن الولايات المتحدة كانت بعيدة عن أزمة سد النهضة حتى دعوة السيسي لترامب إلى التدخل، وهذا غير صحيح، فالولايات المتحدة لم تهمل ملف مياه النيل منذ انخرطت فيه منتصف القرن الماضي، ولم تفرط في خيوط أزمة سد النهضة منذ بدأت، ولم تنقطع زيارات المسؤولين الأميركان إلى مصر وإثيوبيا بعد إزاحة الرئيس محمد مرسي للاتفاق على طريقة إدارة الأزمة وإحياء مسار المفاوضات كلما تعثرت مع استمرار إثيوبيا في بناء السد.
 
ورغم أن الولايات المتحدة تفرض العقوبات الاقتصادية والسياسية على السودان منذ سنة 1993 وتضعه على قائمة الدول الراعية للإرهاب، فقد زار وفد أميركي برئاسة مساعد وزير الخارجية لشرق أفريقيا، وضم رئيس لجنة العلاقات الخارجية بالكونغرس، العاصمة السودانية الخرطوم، في نهاية شهر مارس/ آذار 2018، لمناقشة ملف سد النهضة مع وزير الخارجية آنذاك، إبراهيم غندور، ووزير الري معتز موسى، وحثهما على ضرورة استكمال رحلة المفاوضات المتعثرة حتى يرى السد النور.
ويشهد التاريخ على أن سد النهضة هو فكرة أميركية بالأساس. ففي ستينيات القرن الماضي قامت بعثة أميركية من مكتب استصلاح الأراضي بدراسة فرص الاستثمار في موارد مياه النيل الأزرق، وبعد سنوات من الدراسة الميدانية، أوصى المكتب الأميركي بإنشاء أربعة سدود كهرومائية على طول النيل الأزرق، وحدد مواقعها ووضع التصميمات الأولية لها، وكان أحدها سدّ الحدود الذي عُرف فيما بعد بسد النهضة الكبير في موقعه الحالي.

مراقب غير محايد

سحب ترامب ملف سد النهضة من وزارة الخارجية التي تضم إدارة مكلفة بإدارة قضايا المياه خارج الحدود الأميركية، بما فيها مياه نهر النيل والنيل الأزرق منذ خمسينيات القرن الماضي، وتمسّك بأوراق سد النهضة منذ شرعت إثيوبيا في إنشائه تحت أسماء مختلفة، وأسنده إلى وزارة الخزانة التي لا تختص بالموارد المائية والأنهار الدولية والسدود.

إسناد الملف إلى وزارة الخزانة يرجّح أن يتعامل ترامب مع الأزمة بمنطق الصفقات التجارية التي لا يجيد في السياسة غيرها، وسيأخذ برأي خبراء المياه الذين يعتبرون مياه النيل مورداً اقتصادياً يحق لدول المنابع ومنها إثيوبيا، الحليف الأقرب لأميركا في القرن الأفريقي والقارة على الإطلاق، أن تستثمر فيه وتستخدمه في توليد الكهرباء والزراعة وإنتاج الغذاء.

ويرى أصحاب هذا الرأي أن دولتي المصب، مصر والسودان، عليهما أن تستوردا الكهرباء والغذاء من دول المنابع التي من حقها أن تبيع دول الخليج مواردها البترولية لدول العالم. وهو رأي يؤيده خبراء الموارد المائية في البنك الدولي الذي لحق بالمفاوضات مع الولايات المتحدة ويترأسه الأميركي ديفيد مالباس المعروف بولائه لدونالد ترامب ومستشاره الاقتصادي إبان حملته الانتخابية الرئاسية.

وقد كشف وزير الري المصري الأسبق، محمد نصر الدين علام، وهو وثيق الصلة بملف مياه النيل، عن أن الإدارة الأميركية أرسلت مبادرة إلى مصر للتعامل مع أزمة سد النهضة تتضمن اعتراف مصر بسعة السد الإثيوبي ثم تتفاوض مع إثيوبيا لاحقاً حول سنوات ملء السد وسياسات تشغيله وتتعهد مصر بشراء الجزء الأكبر من كهرباء السد.

وقال علام إنه قد يفاجأ البعض بأن المبادرة الأميركية تتطابق مع صياغة وثيقة إعلان مبادئ مارس 2015، وذلك باستثناء عدم تعهّد مصر بشراء كهرباء السد، وفق مقاله بصحيفة الوطن المصرية بتاريخ 30 يناير/ كانون الثاني 2016.

وكشف نائب رئيس المركز الإقليمي لعلوم الفضاء في الأمم المتحدة، الدكتور علاء النهري، أن الولايات المتحدة تعمدت التشويش وتضليل الصور التي تلتقطها الأقمار الصناعية الأميركية كي لا تتمكن مصر من متابعة مراحل البناء في السد وتفاصيله، وقال إن إسرائيل لها يد في الموضوع، وفق حواره المنشور في اليوم السابع في 27 أغسطس/ آب 2016، وقال في تصريح آخر إن إثيوبيا قامت بتركيب 16 بوابة للمياه في جسم السد وأنها أميركية الصنع ومن ماركة فرانسيز.

سحب التوقيع 

هدّد رئيس الوزراء الإثيوبي، آبي أحمد، بشن حرب ضد مصر وهو ما يزال يتلقى التهاني لحصوله على جائزة نوبل للسلام، وتوعدها خلال جلسة عامة من داخل البرلمان الإثيوبي وأذاعها التلفزيون الرسمي على الهواء مباشرة بحشد الملايين إذا تطلب الأمر من أجل إنجاز سد النهضة، وأكد أنه لا توجد قوة يمكنها أن تمنع إثيوبيا من بناء السد.

إشعال الحرب بين دولتين يبلغ تعدادهما السكاني قرابة ربع مليار نسمة من شأنه أن يقوّض الأمن والسلم في المنطقة، ويجعل شواطئ أوروبا هدفاً لأمواج اللاجئين الفارين من الحرب والعطش عبر البحر المتوسط. وعلى السيسي، إن كان يتفاوض بجد لحفظ مياه النيل، أن يستخدم تهديد أحمد كمبرر للانسحاب من المفاوضات ويصعّد الأزمة إلى الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي والاتحاد الأوروبي ويطالب بوقف أعمال البناء في السد حفاظاً على الأمن والسلم في إقليم حوض النيل والمنطقة.

وقد اعترف الجنرال السيسي في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة في سبتمبر/ أيلول الماضي بأن استمرار التعثر في مفاوضات سد النهضة ستكون له انعكاسات سلبية على الاستقرار في المنطقة عامة، وأقر بأنه تفهم شروع إثيوبيا في بناء سد النهضة رغم عدم إجرائها دراسات وافية لهذا المشروع الضخم بما يراعى عدم الإضرار بالمصالح المائية لدول المصب ومنها مصر، وبالتالي فإن تقاعسه عن الانسحاب من المفاوضات سوف يزيد من تعقيد الأزمة بالنسبة لمصر.

وفي هذه المرحلة الحاسمة من المفاوضات، فإن مطالبة السيسي بإشراك الولايات المتحدة هو خطأ فادح، وقبول إثيوبيا بطلب السيسي في هذا التوقيت رغم رفضه قبل ذلك هو تكتيك ماكر، لأنه يفوت على مصر فرصة سحب التوقيع على اتفاق المبادئ، والذي يوصف بالاتفاق المكبل، لأنه يعفي إثيوبيا من الاتفاقيات القديمة، ومن وقف بناء السد لحين الانتهاء من دراسات عدم الضرر، ومن الاعتراف بحصة محددة لمصر في مياه النيل.
سحب التوقيع على الاتفاقيات الدولية مبدأ معمول به بين الدول ومعترف به في القانون الدولي، وله سوابق دولية. فقد سحب الرئيس الأميركي جورج بوش الابن توقيع الولايات المتحدة على معاهدة المحكمة الجنائية الدولية قبل تصديق مجلس الشيوخ عليه في 2002 والذي وقعه سلفه بيل كلينتون، وسحب الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، توقيع روسيا على المعاهدة نفسها قبل تصديق مجلس الدوما عليها في 2016.

وكشف المراقب الأميركي في اجتماع 9 ديسمبر/ كانون الأول عن أهدافه كاملة، وهي أنه سيتم استكمال بناء وتشغيل السد دون إلزام إثيوبيا بعدد سنوات محدد، على أن تتفق الدول الثلاث على قواعد توجيهية، وليست إلزامية، بحيث تراعي إثيوبيا مستوى الفيضان من سنة إلى أخرى أثناء فترة الملء. وبذلك تتحكم إثيوبيا في عدد سنوات الملء التي تحقق الجدوى الاقتصادية للمشروع دون اعتبار لمصلحة مصر.

فهل يسحب السيسي التوقيع على اتفاق المبادئ وينسحب من المفاوضات ويتمسّك بوقف بناء السد لخطورته على الحياة الاقتصادية والاجتماعية والاستقرار في مصر، أم يستسلم للمفاوض الإثيوبي والرقيب الأميركي؟ هذا ما ستكشفه الأيام.

المساهمون