العملة الرقمية: إلى أين؟

العملة الرقمية: إلى أين؟

28 نوفمبر 2019
تقلبات كبيرة شهدتها العملة الرقمية الأشهر عالمياً (Getty)
+ الخط -
قبل عشرة أعوام، بدأ شخص ياباني، كما هو متداول، واسمه ساتوشي ناكاموتو، إصدار عملة رقمية اسمها "البتكوين" أو (Bitcoin)، وبسعر قليل لا يتجاوز عدداً من السنتات الأميركية.

وعلى الرغم مما تعرضت له العملة الرقمية من تعجّب وتندّر، إلا أن مطلقها كان ذكياً إلى درجةٍ جعلتها جذابة لكثيرين، فهي أولاً محدودة الكمية، حيث لا يزيد المعروض منها عن 821 مليون قطعة. ويجري إصدارها بالتدريج. وكان آخر إصدار لها يوم الأول من سبتمبر/أيلول هذا العام (2019)، حيث بلغ المعروض منها حالياً حوالي 818 مليون قطعة، ولم يبق إلا القليل حتى تكون كل الكمية قد صدرت.

وفي 23 من شهر نوفمبر/تشرين الثاني الحالي، بلغ سعر كل قطعة بتكوين "B" في الأردن مثلاً 5116.39 ديناراً، أو 7391.94 دولاراً أميركياً. وهو بالطبع أقل من سعره الأقصى الذي قارب العشرين ألف دولار خلال عام 2017.

ولو عدنا إلى شهر مايو/أيار من هذا العام، لوجدنا أن سعر الـ "B" قد وصل إلى تسعة آلاف دولار، وهو أعلى سعر وصلت إليه هذا العام.
واضح أن السعر يتذبذب كثيراً في الوقت الحاضر. ومع هذا، ما يزال الإقبال عليه مرتفعاً نسبياً. ولا شك في أن مستثمرين كثيرين قد وجدوا فيه ضالتهم للمخاطرة والمغامرة، والرغبة في الربح السريع. وتقلّب الأسعار قد يعني عنصر مخاطرة لدى بعضهم، ولكن آخرين قد يرون في تقلب السعر فرصتهم للربح العالي، إذا عرفوا متى يشترون، ومتى يبيعون.

وقد تأثر سعر الـ "B" كثيراً في منتصف العام الجاري 2019، عندما أعلنت شركة فيسبوك نيتها إصدار عملة رقمية جديدة، منافسة، باسم "ليبرا" (LIBRA). وقد قوبل هذا الإعلان بردود فعل متباينة، وكثير منها سلبي. ولعل أبرز الناقدين كان ديفيد راتر (David Ratter)، المدير التنفيذي لشركة "Enterprise Software" أو (R3)، والذي وصف القرار بأنه غبي، فقد تنبّه المنظمون الدوليون إلى أن الـ "كريبتو كرنسي"، أو "عملة الكريبتو"، جعلتهم أكثر حساسية تجاه دخول شركات المواقع الاجتماعية وتكنولوجيا المعلومات الكبرى إلى عالم المال والنقد.

الأمر الثاني الذي جعل عملة الـ "B" عملةً مقبولةً هو الحماية العالية التي تتمتع بها، والأمن الإلكتروني الذي وُفّر لها. كل حساب مهما بلغ مقداره منفصل عن باقي الحسابات الاستثمارية في هذه العملة، ما يجعل قراصنة الشبكات غير قادرين على الدخول إلى مجمل حسابات العملة وكشوفاتها. وإن نجحوا في التطفل، فلن ينجحوا إلا في الدخول إلى حساباتٍ محدودةٍ، تعطي الفرصة لحمايتها.

أما الأمر الثالث فهو قيمتها التاريخية. فلقد تحولت كل قطعة "B" مسكوكة إلى تذكار تاريخي، ربما تصبح له في المستقبل قيمة عالية، بصفتها أول عملة رقمية في التاريخ.

ومما يعطي هذه الميزة أهمية أكبر أن عدد العملات الكريبتو قد تجاوز 1600 عملة في نهاية عام 2018.
أما عدد العملات فقد بلغ في شهر يوليو/تموز الماضي 2322 عملة، بلغت القيمة السوقية لأكبر عشرة منها 282 مليار دولار، أو بزيادة 72 مليار دولار عما كانت عليه في شهر يونيو/حزيران من العام نفسه. وعلى الرغم من هذه الأعداد المتزايدة، تبقى الـ "B" أقوى هذه العملات الرقمية وأكثرها تداولاً.

ولعل هذا الوضع يذكّرنا تاريخياً بفوضى سوق النقد التي سادت في الولايات المتحدة خلال القرن التاسع عشر، حيث كانت تصدر بعض الولايات، أو بعض المناطق، عملتها. وقد تنوعت أسماء هذه العملات بين الدولار وجرين باك أو "الظهر الأخضر"، أو الـ "باك" "Buck"، وغيرها من المسميات.

وأخيراً لما أنشئ بنك الاحتياطي الفدرالي "البنك المركزي الأميركي"، توحدت العملة على المستوى القومي الأميركي، واتفق على تسميتها "الدولار الأميركي"، وحددت فئاتها، وكذلك حددت المسكوكات مثل الـ "سنت"، "والنيكل"، والـ "دايم"، و"الكوارتر"، ونصف الدولار، والدولار المعدني وغيرها، ونُظم إصدار العملة بموجب قوانين وضعت لتنظيم النقد وإصداره وتداوله.

وهذا ما سيحصل قريباً في العالم، حيث تقتضي صيرورة الأمور إلى تنظيم هذه العملة الرقمية التي لا تنفع للشراء مباشرة، بل هي مخزن للقيمة، وأقرب إلى الأوراق المالية كالسندات والأسهم في تقلّب أسعارها وطرق المضاربة عليها.

وهنا يجب أن ننبّه إلى أن العالم مقبل على إلغاء العملات الورقية واستخداماتها وسيلة دفع. ولكن هذا لا يعني إلغاء النقود أو وظائفها، فالنقد سيصبح مجرد حسابات إلكترونية، يضاف إليها رصيد أو يطرح منها مقدار حسب النفقات التي يتكبدها صاحب الحساب.
والسؤال الآن: من هو الذي سيصبح مركز تقاص للعالم ومركز إيداع لحسابات الأرصدة؟
الأرجح أن الولايات المتحدة هي المرشح الأقوى، لأنها تملك المنصات الإلكترونية الدولية الثلاث الكبرى في العالم. والدولة الوحيدة التي تملك هذه المنصة هي الصين، عن طريق شركة "هواوي" المستهدفة من الولايات المتحدة حالياً.

وموضوع المنصات الإلكترونية وغيرها من وسائل تسوية المدفوعات في العالم هي الموضوع الأساسي للحرب التكنولوجية الدائرة الآن، وإن أخذت في الظاهر لبوس الحرب التجارية أو حرب العملات. إنها حربٌ تكنولوجيةٌ لمن سيكون المهيمن على الاقتصاد العالمي.

المساهمون