عندما يأكل العرب من أيدي غيرهم

عندما يأكل العرب من أيدي غيرهم

15 نوفمبر 2019
الزراعة في مصر (محمد الشاهد/فرانس برس)
+ الخط -
تُصارع العديد من الدول العربية لكبح فاتورة الواردات التي تُثقل كاهل ميزانياتها وتسعى جاهدة لاستبدال الواردات بالإنتاج المحلي، بالطبع يعتبر دعم الصناعة الوطنية هدفا نبيلا، لكن الحماية المطلقة ليست الأداة الأنجع لتحقيق ذلك الهدف، وهناك حاجة ماسة لإعادة النظر في كثير من الأهداف التي تسمح بتغلغل الفساد من خلال تزايد نفوذ النخبة الاقتصادية ذات الميول الاستغلالية. 

فسرعان ما تلاشت إستراتيجية إحلال الواردات بالإنتاج المحلي مع عُلوّ صوت المنظمات الدولية كصندوق النقد والبنك الدوليين التي تنادي بالتحرير الاقتصادي والتي تضرب المثل دائماً بالنجاح القائم على التصدير للاقتصادات الآسيوية، مثل كوريا الجنوبية، التي حوّلت تركيز نموذجها الخاص بالتنمية الاقتصادية من إحباط الواردات إلى تنشيط الصادرات من خلال خلق الدوافع التحفيزية لتعزيز الإنتاج المحلي عبر إقحامه في المنافسة العالمية والاستفادة من التكنولوجيا التي ينقلها الاستثمار الأجنبي المباشر.

وقامت بعض الدول العربية لاسيَّما دول الخليج العربي بتشجيع التجارة ودعم الصناعات المحلية ونجحت في التحوُّل إلى منصّات للشركات متعددة الجنسيات من أجل الاندماج في الأسواق العالمية، بينما فشلت دول عربية أخرى كالجزائر في تطوير استراتيجيات التنمية المدفوعة بتعزيز الصادرات، وبالمقابل نجحت في استبدال العديد من السلع المستوردة بالإنتاج المحلي من خلال منح العديد من الحوافز للشركات المملوكة للدولة وتقديم إعانات معتبرة ورفع التعريفات الجمركية على استيراد السلع.

وبذريعة تعزيز الإنتاج المحلي والحدّ من الواردات، خلقت العديد من الدول العربية ثغرات كبيرة لتكريس الصناعات الرأسمالية المحصورة على فئات ونخب معينة والتي قلَّصت وألغت في كثير من الأحيان المنافسة في العديد من قطاعات الاقتصاد، وأدَّت إلى نقل الملكية من الدولة إلى محتكرين خواص. علماً أنّ المنافسة ما زالت جدّ متواضعة في الدول العربية التي لم تشرع حكوماتها لحدّ الساعة في تسوية أرضية الملعب بين الجهات الفاعلة في القطاع الخاص ووقف التواطؤ بين الشركات بما في ذلك الشركات الأجنبية وتلك المملوكة للدولة.

وهكذا عزَّزت الدول العربية الفساد من خلال وضعها العديد من القيود على كميات الاستيراد لجهات معينة ورفعها عن خواص معينين وتشديدها للقيود على شراء وبيع العملات الأجنبية ورفعها عن كبار مافيا سوق الاستيراد، وبالتالي لم تقم العديد من الحكومات العربية بكبح فاتورة الواردات بل قامت وبدلاً من ذلك بتشجيع لوبيات الاستيراد، تشويه العوامل المحفزة للسوق، تعزيز القطاع الخاص غير الفعّال القائم على الدعم والتسبُّب في ارتفاع أسعار السلع لاسيَّما الضرورية منها.

تعتبر جماعات الضغط ضدّ الإنتاج المحلي من أهم الجهات المستفيدة من قطاع الاستيراد، فعلى سبيل المثال، تُمنح تراخيص الاستيراد الحصرية على الواردات حكراً لأفراد معينين أو وكالة وطنية، وبالطبع تثبط هذه التراخيص الإنتاج المحلي. كما ترفع التراخيص والقوة الاحتكارية المرتبطة بها من السعر المحلي للواردات والسلع المنافسة للاستيراد، مما يزيد من التكاليف التي يتحمَّلها المنتجون الذين يشترون هذه الواردات (أو البدائل) كالمدخلات مثلاً.

وبالطبع يبلغ الفساد المخلوق في قطاع الاستيراد أوجه عندما تغيب المزادات المتعلقة بتخصيص تراخيص الاستيراد والتي من شأنها وضع حدّ للمستوردين المحتكرين، حيث تُمكِّن المزادات المعمول بها في الدول المتقدمة والآسيوية من وقف عملية تحصيل الأرباح الزائدة من قبل الوكلاء المحتكرين وغير المستحقين، وكذا خفض الأسعار والتكاليف على المستهلكين.

تعزيز الإعانات لرفع الإنتاج والحدّ من الواردات هو عذر أقبح من ذنب نظراً لقيامه بتشويه الاقتصادات المحلية ورفع الطلب على الأغذية والسلع الأساسية التي يعتمد إنتاجها على تلك الإعانات. علاوة على ذلك فإنّ الدعم يزيد بشكل مصطنع الطلب على منتجات المستوردين الحصريين والمحتكرين ويمكن أن يكلِّف الحكومة الكثير من الأموال التي يمكن إنفاقها في أماكن وجهات أخرى. فقد مكَّنت أرباح صادرات النفط وكذا المساعدات الخارجية من رفع حجم ومبالغ الإعانات الموجهة لإحلال الواردات وفتحت بذلك الباب على مصراعيه لتكريس احتكار الواردات وممارسات الفساد المتنوعة.

ويعتبر قطاع الزراعة أحد أهم القطاعات التي يبرز فيها التأثير التشويهي للدعم، وكذا الفساد الناتج عن منح الإعانات الحكومية، حيث يوجد افتقار تام للاستراتيجيات الموجهة لتنظيم الإنتاج المحلي لتلبية الاحتياجات المحلية وتصدير الفوائض، هذا إضافة إلى احتكار بعض الخواص لاستيراد المستلزمات الزراعية.

ويؤدِّي الاعتماد على الاستيراد إلى عجز مزدوج مستمرّ في الدول العربية، بمعنى آخر فإنّ العجز في الميزانية يسبِّب عجزاً آخر في الميزان التجاري.

والأخطر من ذلك أنّ الإفراط في الاستيراد يشجِّع كلا من تهريب السلع والواردات إلى الدول المجاورة كما هو الحال في دول المغرب العربي، واستخدام الواردات كمدخلات في صناعات معينة تحصل على ميزة مصطنعة أو مزيفة عندما تشتري تلك السلع أو المدخلات المستوردة بأسعار أقل من تلك المتداول بها عالمياً، وغالباً ما يبيع القائمون على تلك الصناعات مخرجاتهم بأسعار أعلى بكثير من تلك المتداول بها عالمياً، وهذا ما يشكِّل أخطر أشكال الفساد النابع من الثغرات التي تخلِّفها عملية الاعتماد على الاستيراد في العديد من الدول العربية، وهذا هو الحال عندما تعمل الحكومة على شراء السلع المستوردة وبيعها، وكمثال جيِّد على ذلك هناك صناعة المشروبات الغازية والحلويات التي تستفيد من السكر المُدعَّم وصناعة الحليب ومشتقاته التي تستفيد أيضاً من الحليب المُدعَّم.

لذلك يعتبر تحرير الواردات، وما يرتبط بها من سلاسل لوجستية وتوزيع وكذا خفض الإعانات، حلاًّ ناجعاً للحدّ من العجز المستمرّ الذي ابتليت به ميزانيات الدول العربية منذ بداية الربيع العربي في عام 2011 وانهيار أسعار النفط في عام 2014، وإلاَّ فسيجد المواطنون البسطاء أنفسهم تحت رحمة السياسيين وصناع القرار الذين لن يتأخروا ثانية عن عصر المواطنين وتخفيض التحويلات والخدمات الاجتماعية حفاظاً على مكاسب اللوبيات والنخب غير المستحقة للأموال التي يجدر بها التواجد في جيوب الشعب.

وبدلاً من هتاف الحكومات العربية لإستراتيجية إحلال الواردات التي تخدم اللوبيات الاحتكارية، يجب التركيز على تحرير الواردات ووضعها في صلب إستراتيجية تنمية منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فهذا سيُمكِّن من تطوير القطاعات الإنتاجية التي ستشكِّل بدورها لبنة أساسية وقاعدة جيدة لتشجيع الصادرات.

كما يعتبر تحرير الاستيراد أداة جدّ فعّالة في تخفيض الاحتكار على الواردات، مما سيؤدي إلى انخفاض الأسعار وتقليل العجز. ويجب على الحكومات العربية تطبيق سياسات مدروسة وتجنُّب الهروب الكبير المتمثل في مواجهة المشكلة بتجنُّب مواجهتها.

المساهمون