"سَعوَدة" العملة اليمنية: ريال المملكة يحكم الأسواق

"سَعوَدة" العملة اليمنية: ريال المملكة يحكم الأسواق

22 أكتوبر 2019
الريال السعودي أصبح العملة شبه الرسمية بمختلف التعاملات(فرانس برس)
+ الخط -

مثل الكثير من المعالم اليمنية التي دمرتها الحرب المستمرة منذ أكثر من أربعة أعوام، تلاشت العملة اليمنية في أغلب المحافظات الجنوبية والشرقية الخاضعة لسيطرة الحكومة الشرعية، وأصبح الحصول عليها يمثل عملية شاقة في مختلف التعاملات التجارية والمصرفية، لتحل محلها العملة السعودية، التي أضحت العملة شبه الرسمية، في "سعودة" لمختلف الأنشطة المالية والتجارية.

ويقول خبراء اقتصاد إن ما يشهده اليمن منذ مارس/آذار 2015، يشبه إلى حد كبير ما حدث في لبنان خلال الحرب الأهلية مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، خصوصا ما يتعلق بالجانب الاقتصادي وتدمير العملة الوطنية لتحل محلها عملات أجنبية باتت هي المسيطرة على تعاملات المواطنين وتفاصيل حياتهم يومياً.

ويعاني اليمن من أزمة حادة في العملة المحلية، واندثار أربع فئات ورقية منها، إذ لم يعد هناك أي أثر إلا بشكل محدود للفئات 50 و100 و200 و250 ريالا، بينما لم تستطع العملة المطبوعة حل هذه الأزمة وتغطية حاجة الأسواق من هذه الفئات.

وتقوم الحكومة اليمنية بصرف مرتبات الوزراء ونواب الوزراء بالدولار، بينما يجري صرف رواتب باقي المسؤولين وأغلب التشكيلات العسكرية بالريال السعودي، فيما قدّر مركز للدراسات الاقتصادية حجم النقود السعودية التي يتم ضخها لدفع رواتب التشكيلات العسكرية بنحو ملياري ريال شهرياً.

ومنذ بداية الحرب الدائرة في اليمن، تم إفراغ البنك المركزي من الاحتياطي النقدي الأجنبي المقدر بنحو 5 مليارات دولار، وأكثر من تريليون ونصف من العملة الوطنية، الأمر الذي هز السوق المصرفية، التي تعاني من شح كبير في السيولة النقدية وانتشار عملة قديمة مكدسة وتالفه في مناطق سيطرة الحوثيين، وعملات أجنبية ونسبة من العملة الوطنية المطبوعة في مناطق الحكومة اليمنية.

وتسببت أزمة السيولة الحادة في وصول معدل التضخم إلى نحو 40 بالمائة، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة سلة الغذاء 60 بالمائة، وزاد متوسط أسعار المواد الغذائية بنحو 150 في المائة.


وتؤكد الأمم المتحدة في تقرير "خطة الاستجابة الإنسانية في اليمن 2019" الصادر في وقت سابق من العام الجاري، أن هبوط الريال اليمني وضع البلد الفقير على حافة المجاعة، وعجزت عشرات آلاف الأسر المعوزة عن شراء المواد اللازمة للبقاء على قيد الحياة.

وبذل البنك المركزي، حسب مصادر حكومية، جهوداً كبيرة لاحتواء أزمة سعر الصرف، بما في ذلك تمويل واردات الوقود والسلع الغذائية الأساسية بسعر صرف تفضيلي، إلا أن العملة الوطنية واصلت هبوطها، حيث تجاوز سعر صرف الدولار في السوق الموازية 600 ريال في سبتمبر/أيلول الماضي، مرتفعاً بحوالي 172 في المائة عما كان عليه بداية عام 2015.

وتسبب ذلك في زيادة معدل تضخم أسعار المستهلك، وإضعاف القوة الشرائية للعملة الوطنية، وبالتالي تخفيض القيمة الحقيقية للمدخرات والدخل والاستهلاك، وتفاقم مستويات الفقر وانعدام الأمن الغذائي وسوء التغذية، خاصة أن اليمن يعتمد على الاستيراد في تغطية جل احتياجاته الغذائية وغير الغذائية.

يقول علي البحر، رئيس بنك الإسكان السابق، لـ"العربي الجديد"، إن "الجميع يتخلصون من العملة الوطنية من خلال مبادلتها بالعملات الأجنبية والاحتفاظ بالنقود المالية بعيداً عن القنوات المالية والمصرفية الرسمية"، مشيرا إلى أنه في حالات الانهيار الاقتصادي تصبح العملة المحلية المضطربة لا قيمة لها.

ويلفت البحر، إلى وجود عدة أسباب قادت إلى انهيار العملة الوطنية، منها نفاد الاحتياطي من العملات المحلية والأجنبية وتقويض عمل المؤسسات المالية، والطبع النقدي الذي ساهم كثيراً في اضطراب العملة.

وكانت الحكومة اليمنية قد قامت في 2016 بطباعة نحو 700 مليار ريال من العملة الوطنية من مختلف الفئات، لمواجهة أزمة السيولة الحادة كما قالت.

من جانبه، يؤكد ياسين القاضي، أستاذ الاقتصاد في جامعة صنعاء "ضرورة وضع حد لأزمة العملة اليمنية ومواجهة المشاريع الهادفة لتدميرها، مثل ما يجري لكل ثروات ومقدرات اليمن". ويرى القاضي، في تصريح لـ"العربي الجديد"، أن ما حدث في لبنان خلال الحرب الأهلية مطلع الثمانينيات من القرن الماضي يتم تنفيذه في اليمن منذ بداية هذه الحرب قبل أكثر من أربع سنوات، خصوصا في ما يتعلق بالجانب الاقتصادي وتدمير العملة الوطنية. 

ويضيف القاضي: "انظر إلى اليمن اليوم، هناك تدهور اقتصادي مريع وانهيار كلي للعملة، التي فقدت قيمتها بنسبة كبيرة، بعد إغراق البلد بالعملة السعودية التي أصبحت بمثابة عملة تداول شبه رسمية، بنفس الكيفية التي حدثت في لبنان من تعويم الليرة وانهيارها وأصبح الدولار عملة التداول هناك".

وأبرز الإجراءات التي يمكن اتخاذها بصورة عاجلة لمواجهة محاولات تدمير العملة الوطنية، حسب القاضي، هو تحييد المؤسسات الاقتصادية والمصرفية عن الصراع الدائر، وعدم اتخاذها كورقة يبتز بها كل طرف الطرف الآخر، وكذا التوقف عن إنشاء كيانات موازية للسلطات الرسمية، سواء على مستوى القطاعات المصرفية أو المؤسسات الإيرادية، كخطوات عاجلة لإيقاف نزيف العملة وانهيار الاقتصاد، من خلال استقلالية المؤسسات المالية وإعادة إحياء الدورة النقدية. 

ويُرجع مصرفيون ما تشهده العملة اليمنية من اضطراب إلى توقف الدورة النقدية بعد نقل البنك المركزي إلى عدن في سبتمبر/أيلول 2016، وتعطيل عمل البنوك بتجميد الأرصدة، بالإضافة إلى انتشار محلات الصرافة، وزيادة عمليات المضاربة، لينهار الريال اليمني أمام العملات الأجنبية.

يقول أحمد عبد الحميد السهمي، الخبير المصرفي، لـ"العربي الجديد"، إن "العملة تم إخراجها إلى السوق أو بالأصح إلى الشارع، وتم نهب مال الدولة. لهذا انقطعت الدورة النقدية تماماً، حتى الممزقة تم إخراجها وقد كانت معدة للإتلاف". 

ويضيف السهمي أن البنك المركزي فشل في القيام بوظائفه منذ انتقاله إلى عدن (العاصمة المؤقتة للحكومة جنوب البلاد)، خصوصا في موضوع مرتبات التشكيلات العسكرية التي تُصرف بعيداً عن القنوات المالية الرسمية، وكذا عدم قدرته على إعادة الدورة النقدية وإلزام الجهات البنكية والمصرفية بتوريد السيولة النقدية للبنك المركزي. 

ويشير السهمي إلى أن على البنك المركزي القيام بمهمة عاجلة وحاسمة لتحقيق الاستقرار النقدي، تتمثل في العمل على إلغاء سعودة العملة الوطنية، والتعامل بالريال اليمني، وإلزام البنوك بتوريد السيولة النقدية للبنك المركزي في عدن.


ويبدو أن ما يدعو إليه الخبير المصرفي لن يجد سبيلا نحو التحقق، لا سيما أن مسؤولاً حكومياً كشف، في تصريحات لـ"العربي الجديد" في 13 يوليو/تموز الماضي، أن الحكومة تدرس مقترحاً يتضمن تحويل الدولار الأميركي والريال السعودي إلى عملتين قانونيتين يمكن تداولهما في اليمن، مشيرا إلى أن هذه الدراسة تأتي في ضوء مقترح من صندوق النقد الدولي، ضمن آليات تعالج أزمة تهاوي الريال اليمني.

ويتحدث حسن الفتاحي، مدير المركز الاستشاري للدراسات المالية (مركز مستقل)، عن عمليات مشبوهة يتم تنفيذها منذ بداية الحرب لتدمير العملة اليمنية.

ويقول الفتاحي لـ"العربي الجديد" إن أخطر المشاريع تتمثل في تعويم الريال اليمني وتعطيل البنك المركزي، الذي تم نقل مقره الرئيسي إلى عدن في سبتمبر/أيلول 2016، وإغراق السوق المصرفية بالعملات الأجنبية، بعيداً عن القنوات المالية الرسمية، الأمر الذي خلق سوقا سوداء ومضاربات بالعملة في السوق المصرفية. ويضيف أن "عملية سعودة العملة اليمنية تجري بوتيرة عالية منذ بداية الحرب"، لافتا إلى أن الريال السعودي أصبح بصورة غير مباشرة عملة "تداول رسمية" في كل التعاملات التجارية والمصرفية في 7 محافظات يمنية.


ويعتبر الريال السعودي عملة تداول في أغلب المعاملات التجارية حتى في صنعاء وعدن وفي عملية البيع والشراء للأراضي والعقارات وتتكدس بها شركات ومحلات الصرافة التي تكاد تنعدم العملة اليمنية منها.
ويتم في هذا الخصوص صرف رواتب نحو 200 ألف فرد من التشكيلات العسكرية في مناطق سيطرة الحكومة اليمنية، والنخب والأحزمة التي شكلتها الإمارات في المحافظات الجنوبية، وذلك بالريال السعودي لا اليمني.

ويقدر الفتاحي ما يتم إنفاقه بنحو ملياري ريال سعودي شهرياً كرواتب لـ15 من التشكيلات العسكرية والنخب المنتشرة في المحافظات الجنوبية، إضافة إلى قوات العمالقة وقوات ما يسمى بحراس الجمهورية التي يقودها طارق صالح، وتقاتل في محافظة الحديدة غرب (اليمن).
من جانبه، يشير نصر اللهبي، الباحث الاقتصادي، إلى أن تعطيل التحالف بقيادة السعودية، لعملية تصدير المشتقات النفطية اليمنية، وخنق الموانئ وخلق سلطات موازية للحكومة والسلطات الرسمية، يبدد الدورة النقدية، ما يؤدي إلى انهيار العملة الوطنية، لأن الحكومة لا تستطيع تحصيل الإيرادات من الضرائب والجمارك ومختلف التعاملات الاقتصادية والتجارية والتي تتحكم بإدارتها وتحصيلها سلطات غير شرعية يديرها التحالف.


في المقابل، تحمّل الحكومة اليمنية، الحوثيين، مسؤولية انهيار العملة في اليمن، بسبب سياساتهم التي أفرزت عدداً من المشاكل المتمثلة في عجز السيولة واستنزاف الاحتياطي وتحويل الدورة النقدية إلى خارج القطاع المصرفي لصالح السوق السوداء وتمكينها من إدارة السياسة النقدية للبلاد والتأثير فيها. 

ويقول مسؤول حكومي لـ"العربي الجديد" إن قيام الحوثيين في 2015 بتعويم استيراد المشتقات النفطية، والسوق السوداء التي أنتجوها تسبب في استنزاف الاحتياطي المقدر بنحو 5 مليارات دولار والعملة المحلية واستخدام العملة التالفة، وهو ما تسبب في الانهيار الاقتصادي والمالي الراهن.

ويرى المسؤول أن قرار نقل البنك المركزي إلى عدن جاء لمعالجة أوضاع القطاع المصرفي ومنع انهياره والحد من السياسات الحوثية لتجريف مؤسسات الدولة واستعادة البنك المركزي لأدوات إدارة السياسة النقدية للبلاد من السوق السوداء.

ويضيف أن الحكومة استطاعت الحصول على وديعة سعودية بقيمة 2.5 مليار دولار لدعم العملة الوطنية واستخدامها لتغطية احتياجات استيراد السلع الغذائية الأساسية من العملة الأجنبية وبسعر أقل من سعر السوق، بهدف تعزيز مخزون السلع الغذائية الأساسية وتوفيرها في مختلف مناطق الجمهورية بأسعار مناسبة، وكذا للحد من المضاربة في العملة ومنع انهيارها.

المساهمون