سرقة "مريلة" ومليارات موازنة مصر

سرقة "مريلة" ومليارات موازنة مصر

01 أكتوبر 2019
زيادة الأسعار تدهس فقراء مصر (Getty)
+ الخط -
منذ ما يقرب من عام، وتحديداً يوم الخميس 20 سبتمبر 2018، وقف مواطن مصري فقير عاجزاً عن شراء زي جديد " مريلة" لابنته التي تتجهز لدخول المدرسة الابتدائية.

فكّر الأب في الاقتراض ممن حوله، لكنّ أحداً لن يقرضه هذه الأيام مع دخول موسم المدارس وزيادة الأعباء المادية على الأسر في هذا التوقيت من كل عام.

ذهب إلى معرض المستلزمات الدراسية المقام في ميدان الساعة وسط مدينة دمياط التي يقطن فيها، وبعد تجوّل في المعرض ونظرات هنا وهناك أخفى زياً جديداً داخل كيس أسود كان بحوزته وتسلل خارجاً.

لكن كاميرات المراقبة رصدته صوتاً وصورة ولم تتستر عليه، كما تتستر على لصوص المال العام وغاسلي الأموال القذرة وتجار الآثار والمخدرات ومتلقي الرشاوى ومرتكبي جرائم التهرب الضريبي والجمركي.

تجمع العشرات من الباعة والأهالي حول الأب السارق، وبجواره زوجته، وأمسكوا بهما أمام الجميع، وشددوا الخناق عليهما منعاً للهرب، وكأن الأب سرق ملايين الجنيهات أو حصل على رشوة ضخمة.

وأمام الصرخات المتعالية ممن حوله لم يتمالك الرجل نفسه، فسقط منهاراً أمام إصرار العاملين والمارة على إبلاغ الشرطة، ولم تفلح دموعه وزوجته في إقناعهم بالعدول عن الإبلاغ.

وبسرعة، حضرت الشرطة، واصطحبت قوة من أفراد الأمن المدججين بالسلاح الزوجين، الأب السارق وزوجته، إلى قسم أول شرطة دمياط للتحقيق معهما حول جريمتهما الشنيعة.

وقف الرجل أمام رئيس المباحث يشرح له لماذا ارتكب هذه الجريمة، وسبب عدم قدرته على شراء زي جديد لابنته، وقال باكيا: "كان نفسي أفرّح بنتي وهي ذاهبة إلى المدرسة في أول يوم وسط زميلاتها"، وتساءل مندهشا: "هي بنتي ملهاش حق تفرح؟"، ثم أجهش بالبكاء، فأخلى رئيس المباحث سبيله من دون تحرير محضر.

على الجانب الآخر، وفي التوقيت ذاته، كانت موازنة مصر للعام المالي 2018-2019، وهو العام الذي شهد واقعة سرقة المريلة، تشهد وفراً مالياً ضخماً يقدر بعشرات المليارات من الجنيهات، إما بسبب تراجع أسعار النفط في الأسواق العالمية، وهو ما وفّر المليارات من بند فاتورة استيراد المشتقات البترولية، أو بسبب الزيادات الحكومية المتواصلة لأسعار الوقود والتي كان من بينها زيادة بنسبة 67% في عام المريلة.

وحسب الأرقام الرسمية فإنه حدث وفر مالي لموازنة هذا العام تقدر بنحو 34.8 مليار جنيه، حيث هبطت تكلفة دعم الوقود بنسبة 29.6% في السنة المالية 2018-2019 لتصل إلى نحو 85 مليار جنيه (5.15 مليار دولار) مقابل 120.8 مليار قبل عام.

بالطبع لا يعرف هذا المواطن "السارق" شيئاً عن مليارات الجنيهات التي توفرت لخزانة الدولة من الزيادات الخمس التي جرت لأسعار الوقود خلال السنوات الست الماضية.

ولا يعرف الأب شيئاً عن المليارات الأخرى التي توفرت بسبب خفض الدعم الحكومي المقدم للسلع الرئيسية ومنها المياه والكهرباء والسولار والبنزين، ولا يعرف شيئاً عن المليارات التي توفرت بسبب القفزات التي حدثت في سعر الغاز المنزلي الذي يستخدمه ملايين المصريين ومن بينهم صاحب واقعة سرقة المريلة، ولا يعرف هذا المواطن أن وفرا جرى في فاتورة دعم الكهرباء بلغت قيمته 10 مليارات جنيه خلال العام المالي الجاري.

كل ما يعرفه هذا المواطن أن ظروفه المعيشية باتت بالغة القساوة شديدة التعقيد، وأنه تم حذفه من البطاقة التموينية شأنه في ذلك شأن ملايين المصريين، وأن قطار زيادات الأسعار المتواصل يدهسه بقسوة، وأنه لا أمل لديه في تحسن مستوى دخله، وأنه لا فرص عمل متاحة.

لو أن عدة مليارات من بند واحد في الموازنة العامة هو الوفر الضخم في الدعم الحكومي تم تخصيصها لملايين الأسر الفقيرة والمعدمة لوجد سارق المريلة المال الكافي لشراء احتياجات أولاده المدرسية، ووجد مكاناً لائقاً لابنته في المدرسة، وسريراً في مستشفى عندما يتعرض ابنه لوعكة صحية.

لكن يبدو أن مليارات الوفر في الموازنة مصيرها أغراض أهم مليون مرة من هذا المواطن الفقير، مصيرها إقامة قصور وشراء طائرات رئاسية وإقامة حي حكومي ضخم ودار للأوبرا في العاصمة الإدارية الجديدة، مصيرها تمويل تفريعة قناة السويس، فالحكومة تبني دولة حديثة حسب كبار المسؤولين، والمواطن آخر اهتمامات هذه الدولة.

دلالات

المساهمون