دافوس: تحت القاع قيعان

دافوس: تحت القاع قيعان

31 يناير 2019
دافوس شهد غياباً لكبار القادة (بينوا دوبان/ فرانس برس)
+ الخط -
لعل مؤتمر دافوس  هذا العام فقد جزءاً من بريقه اللمّاع، أو لعل الظروف التي حلّت بالعالم بتاريخ عقده في أواخر شهر يناير/ كانون الثاني من هذا العام (2019) غطت عليه بسحابةٍ ثقيلة. ولم تصدر عن المؤتمر  أخبار أو استطلاعات عن أوضاع الاقتصاد العالمي مما يسر الخاطر أو يريح البال. 

ولعل القراءات الاقتصادية، وما صاحبها من أحداث، هي التي أطفأت كثيراً من شموع اجتماعات المنتدى الاقتصادي  العالمي في مدينة دافوس السويسرية، والتي كتب توماس مان عن "جبل السحر" فيها قصته الشهيرة "Magic Mountain".

ولقد كان أوضح المتغيّبين عن المؤتمر الرئيس الأميركي، دونالد ترامب الذي أعد العدة للسفر والحضور وإطلاق التصريحات، وعقْد الاجتماعات الثنائية مع الزعماء الآخرين الحاضرين.

وتغيب معه أيضاً رئيسة وزراء المملكة المتحدة، تيريزا ماي، بسبب ضيق الوقت أمامها. وقد نَجَت بالكاد من تصويتٍ بعدم الثقة، بعد أن خسرت خسارة كبيرة في التصويت على برنامجها للخروج من الاتحاد الأوروبي أو ما يسمى "البريكست".

أما الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، فقد آثر البقاء في بلاده ليطلق حملة الحوار الوطني في ظل مظاهرات أصحاب السترات الصفراء، وما صاحب هذه المظاهرات من عنفٍ على الرغم من تراجعه عن كل القرارات التي أثارت حفيظة الشعب الفرنسي، وخصوصا الفقراء والعمال.
وتغيب كذلك القادة العرب.

وقد كان متوقعاً حضور الملك الأردني عبدالله الثاني بن الحسين كي يتواصل مع القادة ورجال الأعمال، ليحثهم على حضور مؤتمر لندن الذي سيعقد في أواخر شهر مارس/ آذار لدعم الاستثمار في الأردن، ولكنه أرسل رئيس الوزراء عمر الرزاز.

وكان من المتوقع لدى كارل شواب، صاحب المنتدى الاقتصادي العالمي، أن يحضر ولي عهد المملكة العربية السعودية، الأمير محمد بن سلمان، لكنه آثر البقاء على الظهور في وقتٍ لم تزل قصة قتل الصحافي جمال خاشقجي وقضية حقوق الإنسان في بلده حاميتين، خصوصا مع وجود منبرٍ مفتوح في دافوس لكل المنظمات غير الحكومية الدولية، وذات الموقف الناقد لسياسات المملكة العربية السعودية، ولولي العهد نفسه.

وقس على ذلك كثيرين. وهذا بالطبع قد عكّر جو المؤتمر، وقلل من أهميته، فالأصل في قيمة هذا اللقاء أنه يجمع السياسيين ورجال الأعمال والمنظمات الدولية الرسمية وغير الحكومية في مكان واحد يلتقون فيه. ويتبادلون الأفكار، ويستمعون بعضهم لبعض عن أوضاع العالم الاقتصادية، والأهم من هذا كله يعقدون الصفقات، أو يمهدون لذلك.

ولكن الأخبار غير السارة توالت تباعاً، فقد أعادت مديرة صندوق النقد الدولي، كريستين لاغارد، في كلمتها أمام المنتدى، تقدير معدلات النمو الاقتصادي المتوقعة عام 2019 إلى أقل مما كان الصندوق قد قدّرها سابقاً، ففي كلمتها التي ألقتها في الحفل الافتتاحي يوم 19 يناير/ كانون الأول الجاري، أكدت أن معدلات النمو في العامين 2019 و2020 سوف تكون أقل من عامي 2017 وَ2018 من دون أن تحدد النسب. ولكنها أكدت أن زيادة الحمائية، وتعقّد السياسات الإصلاحية، في دول نامية كثيرة هما السبب، مشدّدة على تقليل هذه الدول الديْن العام فيها، ما سيمنحها مزيداً من الحرية للتحرّك في مواجهة متطلبات النمو، ونسيت أن تذكر أن سياسات الصندوق هي أحد القيود الكبيرة المسببة أزمة المديونية في الدول النامية.

واستمع الحاضرون إلى أخبار توزيع الدخل في العالم. وأكد رئيس البرازيل الجديد، جايير بولسونارو الذي تصدّر قائمة الحاضرين من رؤساء الدول القلائل، وأعْطي فرصة إلقاء الخطاب الرئيسي في افتتاح المؤتمر. وقد استثمره، ليتحدث عن "البرازيل الجديدة" التي تريد أن تفتح أبوابها للاستثمارات العالمية، مؤكداً أن سياسات من سبقوه الإغلاقية قد سببت تراجعاً كبيراً في معدلات نمو بلاده، ورفعت نسبة التضخم، وزادت الفقراء فقراً.

ولكن التقارير من فنزويلا لم تكن مطمئنة، فقد انشق رئيس مجلس الشعب الفنزويلي، جوان غايدرو، عن الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو، معلناً نفسه الرئيس الشرعي للبلاد. وسارعت الولايات المتحدة وعدد من دول أميركا اللاتينية، إلى الاعتراف بالنظام الجديد، والواقع أن الرئيس مادورو المناصر للقضية الفلسطينية قد أساء إدارة اقتصاده، فتسبب في هجرة الملايين إلى الدول المجاورة (منها كولومبيا والأرجنتين)، وإلى ارتفاع نسبة التضخم بعشرة ملايين في المائة، أي أن أي ورقة عملتها مهما كبرت لا تساوي كلفة طباعتها.

وفي هذا الصدد، فإن المعلومات عن تدهور صورة توزيع الدخل والثروة في العالم قد تأكدت في أكثر من مداخلة في دافوس. وخرج الجميع بأن الفقراء يزيدون فقراً، والأغنياء يزدادون غنى، وأن هنالك 1.1 مليار نسمة في العالم، يعانون من الفقر المدقع، وأن هذا الرقم مرشح ليصل إلى 1.4 مليار نسمة في العام 2025.

أما بالنسبة للعالم العربي، فإن معدلات النمو مرشحة فيه للتراجع، والمشكلة تكمن في زيادة نفقات الحكومات على أمورٍ ليست متعاطفة مع حاجات السكان، أي أنها ليست ذات طابع إنساني، ولا هي موجهة لحل مشكلاتهم، بل لتعقيدها.

ولهذا يصبح الوطن العربي مرشحاً لمزيدٍ من المشكلات، والثورات والاعتصامات. ونرى أن معظم الدول المطلة على البحر الأحمر في الوطن العربي (باستثناء السعودية وجيبوتي) تعاني معاناة مرّة، وتجد نفسها أمام خيارات صعبة، ولكن بدرجات متفاوتة جداً، فاليمن والسودان والصومال تعاني من التضخم والندرة والإرهاب في بعضها، والحرب في أخرى، والاحتجاجات العارمة في بلد آخر.

أما الأردن ومصر فهما أحسن حالاً، ويحقّقان معدلات نموٍّ بالكاد تغطي الزيادة في السكان، وإنْ كان الوضع في الأردن أحسن حالاً من حيث معدلات الدخل والتضخم.

نحن أمام تحدياتٍ كبيرة في الوطن العربي، ويجب أن نتنبه كلنا خلال العامين المقبلين، حتى ما نظنه قاعاً نكتشف أن تحته قيعاناً أخرى.

المساهمون