مخاطر هيمنة السياسة على الاقتصاد

مخاطر هيمنة السياسة على الاقتصاد

25 سبتمبر 2018
دول عربية تمتعت بعائدات نفطية وفشلت تنمويا(Getty)
+ الخط -
تمّ تسليط الضوء على العديد من العوامل التي تلعب دورا في تسهيل أو إعاقة التنمية مثلا كوفرة الموارد الطبيعية، تراكم رأس المال، حجم السكان، جودة التعليم، مستويات المعرفة العلمية والتطوُّرات التقنية.
وبالمقابل تلقَّى دور السياسة في عملية التنمية القليل من الاهتمام حتى وقت قريب، ولعلَّ خير مثال على ذلك دول عربية كالسعودية، الجزائر، العراق وليبيا، فهذه الدول لها عدد سكان صغير نسبياً، ومساحات شاسعة وعائدات نفطية هائلة، ومع ذلك فشلت في مجاراة تايوان المفتقرة للموارد الطبيعية والمكتظّة بالسكان.

لا يمكن إنكار أهمية العوامل السابقة في تحديد قدرة كل بلد على المضي قدما في مسار التنمية، لكن لا يمكنها وحدها دون عامل السياسة تفسير الاختلافات الشاسعة في مستويات التنمية بين الدول.
ما يُلاحَظ في أغلب دول العالم الثالث هو هيمنة السياسة على المجتمع والاقتصاد، الأمر الذي حوَّل الاقتصاد إلى أداة فعّالة في أيدي السياسيين لكسب القوّة والثروة وخدمة مصالحهم، وكل ذلك على حساب حقوق المواطنين، الفقراء، ومصير البلد والأجيال المستقبلية.

يمكن للسياسة أن تُشكِّل دافعا قويّا للنمو الاقتصادي، كما يمكن لها أن تكون مثبطاً له من خلال قيامها بتأخير عملية التغيّر الاجتماعي والثقافي، حيث يؤثر التفاعل بين السياسة والاقتصاد على قضايا السلام، الفقر، المساواة، الحرية، الديناميكية الاقتصادية والاستقرار السياسي.
وتفتقر معظم الدول العربية وبسبب هشاشة استقرارها السياسي وحكمها الاستبدادي إلى القدرة على وضع وتطوير خطط البدء بعملية التغيّر الاجتماعي والثقافي والتي تمهّد بدورها الطريق للتنمية الاقتصادية.

عندما يتمتّع البلد بالأمن سيكون هناك حتما اهتمام كبير بالقضايا الاقتصادية وتسامح كبير مع المعارضة السياسية والتنوّع الثقافي، ولكن بالطبع ليس مع وجود الأخطاء الحكومية، والسلوك البيروقراطي المنحرف والفساد، ولكن عندما يعاني البلد من عدم الاستقرار السياسي فإنّه يكون أكثر ميلا للاهتمام بالقضايا السياسية والأمنية.

وكنتيجة طبيعية لذلك سيكون هناك تسامح كبير مع الأخطاء الحكومية، وسوء استخدام السلطة وانتهاك حقوق المواطنين، ولكن ليس مع المعارضة السياسية، ولكن حتى تصبح السياسة أداة لتحقيق التنمية الاقتصادية يجب أن يكون هناك تضحيات في فترات النزاع والحروب وبالمقابل نقاش مفتوح ومساءلة في فترات الأمن والسلام.
لقد قامت معظم الدول العربية بعد حصولها على الاستقلال برفض الرأسمالية والديمقراطية والحدّ من الاستثمار الأجنبي وتأميم صناعاتها الرئيسية ومؤسساتها الاستراتيجية كدليل على الاستقلال الاقتصادي والتحرّر من قبضة الهيمنة الأجنبية.

وهكذا أمسكت بيروقراطية الدولة زمام الأمور واستلمت مهمّة إدارة الاقتصادات الوطنية حديثة النشأة، مما أدّى إلى زيادة كبيرة في حجم وثقل البيروقراطيات، في الوقت الذي احتاجت فيه تلك الاقتصادات إلى أفكار جديدة والشعور بالسير بخطى مدروسة في الاتجاه الصحيح نحو الغاية المنشودة والمتمثلة في تحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة والرخاء للشعوب.
ومن المعروف أن البيروقراطيات تميل إلى أن تكون محافظة أكثر ومفتقرة إلى الأفكار الجديدة بل تنفر منها، لذلك ترجع معاناة الاقتصادات العربية بالدرجة الأولى إلى فشل المسؤولين الذين يديرون هذه البيروقراطيات والذين تدرّبوا على إدارة الأنظمة المستقرّة ولم يتدرّبوا على الابتكار في الأفكار والمجازفة، وبالتالي تسبّبوا بشغفهم بمصالحهم الشخصية وبخبرتهم المحدودة تلك في تعطيل الاقتصادات الوطنية، وارتفاع التضخم إلى عنان السماء، وخلق تفاوت كبير في توزيع الدخل، وتفشي الفقر وانتشار الفساد.

والنتيجة شعور أولئك المسؤولين بالتهديد وعدم الكفاءة وهو ما دفعهم لتشديد الرقابة السياسية والأمنية، وبناء جيوش قوية، السيطرة على وسائل الإعلام، إسكات وتكميم المعارضة، قمع المبادرة الفردية والإبداع، تشديد القبضة على الاقتصاد وكل ذلك من أجل البقاء في السلطة والاستحواذ عليها.
وهكذا أصبحت السياسة عقبة كبيرة تقف في وجه التغيّرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية الضرورية لعملية التنمية الاقتصادية، مما تسبّب في تفويت كل فرص التطوّر وبقاء معظم المجتمعات العربية غارقة في وحل التخلف الاقتصادي.

وتتمثل أكبر العوائق السياسة في البيروقراطية السرطانية التي أصبحت السبيل لممارسة مظاهر السلطة واستغلال حقوق المواطنين، والجيش الذي برز تدريجيا كأداة للاستيلاء على السلطة السياسية والمحافظة عليها، والشرطة التي تحولت إلى أداة جيّدة لإدامة السيطرة والهيمنة السياسية، ووسائل الإعلام التي ظهرت كآلة لتقويض المعارضة وإعادة صقل مواقف المواطنين.
وأخطر ما في البيروقراطية التي تعدّ اللعبة المُفضَّلة في يد أغلب حكام العالم العربي أنّها تجعل من الفساد قاعدة وليس استثناء، وتحول دون مساءلة مسؤولي الدولة وذلك لحماية مصالح النخبة. والدول التي تطوّرت لم يكن بوسعها فعل ذلك إلا بعد التخلي عن عقلية السيطرة السياسة والاقتصادية الكاملة.

على العموم يعدّ المجتمع العربي مجتمعا استهلاكيا يهيمن عليه استبداد النخب الحاكمة التي لا تتردَّد في إيداع مدخراتها ومدخرات رجال الأعمال المقربين منها في حسابات مصرفية أجنبية بدلاً من استثمارها وطنياً ومحلياً وهنا يتجلَّى ويتَّضِح سلوكهم المدفوع بالمصلحة الشخصية وإهمالهم التام للمصلحة العامة.
ولا يقتصر الأمر على ذلك فحسب، بل يتم نهب القروض والمساعدات الأجنبية من قبل السياسيين الفاسدين ورجال الأعمال المقربين ليزدادوا ثراءً، وهذا ما يفسّر تماما تفوُّق الأصول الأجنبية لبعض النخب الحاكمة على الناتج المحلي الإجمالي لبلدهم. وهكذا تصبح السياسة أداة لتسخير الاقتصاد لخدمة المصالح الشخصية وتدمير أي محاولة لبناء أساس متين لقيام عملية التنمية الاقتصادية.
الخروج من دوَّامة التخلُّف
لا يمكن تحقيق أيّ تقدُّم من خلال التركيز على الماضي، بل يجب التفكير في المستقبل والابتعاد قدر الإمكان عن التحفُّظ والتشكيك في التغيير، كما يجب تسخير كل الظروف المواتية لإطلاق العنان لعملية التغيّر الاجتماعي والثقافي التي بدورها ستزرع بذور السلوك الإيجابي ومحاربة الفساد وتعزيز الاستقرار السياسي.
وإذا أمعنا النظر في التاريخ لن نجد أي دولة نجحت في تحقيق التنمية الاقتصادية من دون أن تمرّ بعملية تغيّر اجتماعي ثقافي والتي يسمح بحدوثها من يتولَّى زمام الحكم وأمور السياسة.

تتطلب التنمية الاقتصادية في هذا العصر تحوُّلات اجتماعية وثقافية تقودها القرارات السياسية الصحيحة والتي تصبّ في مصلحة المجتمع أوّلا وأخيرا، يمكن للسياسة أن تلعب دوراً جوهرياً في توجيه دَفَّة الاقتصاد نحو بدء عملية التحديث والتطوير، ولا سيَّما أنّ معظم الدول العربية أصبحت في مرحلة من التدهور لا ينفع القول فيها إن الاعتراف بالمشكلة هو جزء من الحلّ، بل يجب المرور مباشرة إلى تطبيق الحل، خاصّة أنّ ظروف الاقتصاد العالمي قد تغيَّرَت إلى الأسوأ ورفعت التكاليف، وبالتالي ليس في مصلحة الحكومات العربية المُماطلة في إزالة العراقيل السياسية التي تعيق عملية التنمية الاقتصادية التي تضمن الرخاء للأجيال الحالية والمستقبلية.

المساهمون