قوة الدولار وهشاشة الاقتصادات النامية

قوة الدولار وهشاشة الاقتصادات النامية

30 مايو 2018
رفع الفائدة على الدولار أدى لصعوده أمام العملات الأخرى(Getty)
+ الخط -
بلغت الأزمة المالية العالمية ذروتها في 2008، ووقتها قرر مجلس الاحتياط الفدرالي (البنك المركزي الأميركي) تخفيض معدلات الفائدة على أمواله، حتى وصلت في بداية عام 2009 إلى ما يقرب من الصفر.
وفي ديسمبر/كانون الأول 2015، بدأ البنك، لأول مرة في عشر سنوات تقريباً، رفع معدلات الفائدة، فرفعها بنسبة ربع بالمائة، وأتبعها بربع آخر في ديسمبر 2016، ثم ثلاثة أرباع أخرى في 2017، وربع أخير قبل نهاية الربع الأول من العام الحالي، ولمّح إلى أن هناك ربعين آخرين – على الأقل – هذا العام، بالإضافة إلى ثلاثة أرباع أخرى خلال العام القادم 2019.

العملة التي يتم رفع معدل الفائدة عليها، وفي حالة ثبات كل الظروف الأخرى، عادة ما تقوى أمام العملات الأخرى، ويحدث ذلك بصورة واضحة مع الدولار، حيث أدى رفع معدلات الفائدة على الدولار تاريخياً، حتى وإن كان بنسب قليلة، إلى تحول مزيد من المستثمرين إلى الاستثمار في أدوات الدين الأميركية، وأهمها سندات الخزانة.
لكن ما حدث في الفترة الأخيرة، لم يكن مجرد رفع لمعدلات الفائدة، فمع الإشارة إلى "رفعات" قادمة، كان هناك انتعاش في الاقتصاد الأميركي، ضاعف من تأثيره قانون الإصلاح الضريبي، الذي أقره الرئيس الأميركي بداية هذا العام، فارتفعت معدلات نمو الاقتصاد، وانخفضت البطالة لأقل مستوى لها في حوالي 17 عاما، وارتفعت الأجور.

وأدت كل تلك المؤشرات الإيجابية إلى خروج مليارات الدولارات من كل مكان في العالم، متوجهة نحو السوق الأميركية، بحثاً عن توليفة أفضل من الربحية / المخاطر، خاصة مع تصاعد المخاطر الجيوسياسية في العديد من المناطق حول العالم.
وأدى توجه الاستثمارات نحو السوق الأميركية إلى ارتفاع الدولار أمام أغلب عملات العالم، واختلف التأثير بحسب قوة الاقتصاد في المنطقة التي خرجت منها الاستثمارات.

ففي الاقتصادات المتقدمة Developed Economies، انخفضت العملات الأوروبية والين الياباني والدولار الكندي أمام الدولار بنسب قليلة منذ بداية العام، لأن هذه الاقتصادات كان لديها من التنوع والقدرة على التكيف مع ظروف السوق ما أكسبها مناعة أمام تحركات الأموال منها، خاصة وأن معامل المخاطرة لديها قريب جداً منه في الولايات المتحدة الأميركية.
أما في الاقتصادات الناشئة والنامية Emerging & Developing Economies، فقد أدت أجواء رفع معدلات الفائدة على الدولار، مع الانتعاش الاقتصادي الأميركي، إلى اتجاه المستثمرين لبيع أسهم وسندات وعملات الدول صاحبة تلك الاقتصادات، مما أدى إلى إظهار نقاط الضعف فيها.

وقبل أسبوع، رفع البنك المركزي الإندونيسي معدلات الفائدة لديه لأول مرة في أربع سنوات لإيقاف ضعف عملته، وتدخلت السلطات النقدية في هونغ كونغ في الأسواق لمساندة دولارها، وانخفضت الليرة التركية إلى أقل مستوياتها في سنوات، بينما تواجد الريال البرازيلي في منطقة قريبة من أقل قيمة له في أكثر من عامين، كما انخفض مؤشر مورغان ستانلي للأسواق الناشئة، الذي يقيس أداء الأسهم في 24 اقتصاد ناشئ، أكثر من عشرة بالمائة من أعلى مستويات بلغها في يناير/كانون الثاني من العام الحالي.
استفاد المستثمرون الأجانب من معدلات الفائدة المرتفعة التي سادت في بعض تلك الاقتصادات، في وقتٍ كان العائد على الدولار قريباً من الصفر. فلما بدأت معدلات الفائدة الأميركية في الارتفاع، وظهرت علامات انتعاش الاقتصاد الأميركي، قلت الدوافع التي تشجع المستثمرين على اتخاذ مخاطرة الاستثمار بعملات تلك الدول، حتى مع استمرار وجود معدلات الفائدة المرتفعة في بعض تلك الاقتصادات.

فارتفاع الفائدة على الدولار يعني ارتفاع تكلفة خدمة الديون الخارجية في تلك الدول، وهو ما قد يؤدي إلى اضطراب ميزانياتها العامة وتخفيض معدلات الاستثمار والنمو، وكلها أمور طاردة للاستثمار.
وفي تحليل لما يحدث حالياً في أسواق تلك الدول، أشارت جريدة وول ستريت جورنال إلى أن مستثمري العالم يهربون من الدول التي تعاني عجزاً في ميزانها الجاري، حيث تعتمد تلك الدول على الاستثمار الأجنبي في سد عجز موازنتها وتمويل إنفاق حكومتها! وقالت الجريدة إن الاعتماد على العالم الخارجي في تمويل الإنفاق الحكومي ودفع فاتورة الواردات يضع تلك الدول في موقف صعب جداً عند ارتفاع الدولار!
وفي مصر، كانت مشكلة العجز في الميزان الجاري المزمنة هي سبب كل المآسي الحالية. فمنذ عام 2011 تعاني الدولة من عجز في الميزان التجاري، والجاري، وصلت قيمته حالياً من 20-30 مليار دولار، واعتادت الحكومة على سده كل عام بالاقتراض من الخارج. فكانت النتيجة الطبيعية فقدان الجنيه المصري لأكثر من 60% من قيمته، وارتفاع الدين الخارجي، وازدياد العجز كل عام، خاصةً مع توجيه أغلب ما يتم اقتراضه، إلى تمويل الإنفاق الحكومي ودفع فاتورة الواردات! 

عجز الميزان الجاري، وارتفاعه من عام لآخر لا معنى له إلا أننا نعيش خارج إمكاناتنا كدولة "فقيرة قوي"، تستورد ما لا تقدر على سداد ثمنه، ثم تقترض "من اللي يسوى واللي ما يسواش" لسداد ثمن ما اشترته. ولو كان ما تشتريه الدولة آلات ومعدات استثمارية، لقبلنا وقلنا إنها ستكون مجرد مرحلة، نقوم فيها بالاقتراض للاستثمار، ونحقق عائدأ على مما ندفعه من فائدة، ثم نقوم برد ما اقترضناه، لكن هذا لا يحدث. فالاقتراض يستخدم لرد ما سبق اقتراضه، مع تحمل فوائد كارثية، تلتهم حالياً ما يقرب من نصف إيرادات الدولة. أما الاستيراد، فيغلب عليه صفة الكمالية، مما يمكن الاستغناء عنه، طوعاً أو كرهاً، لو أراد من بيده الأمر.

الحل الوحيد هو القضاء على هذا العجز، إما بزيادة الصادرات، أو بخفض الواردات. وإلى أن ينخفض الدين الخارجي بنسبة 5% على الأقل في أي تاريخ مقارنةً بما كان عليه في الفترة السابقة، فلن أقتنع بأن هناك رغبة حقيقية في إنقاذ الاقتصاد المصري.