تفشي الفساد يدق ناقوس الخطر في الجزائر

تفشي الفساد يدق ناقوس الخطر في الجزائر

27 مايو 2018
بلغ الفساد مستويات غير مسبوقة في الجزائر(Getty)
+ الخط -
ما زالت الجزائر تصنف من بين دول العالم الثالث التي لم تستطع اللحاق بركب التنمية المستدامة، كيف لا، والفساد فيها كالغل الذي لا يخلع، حيث يتفشى على جميع المستويات وفي جميع القطاعات، بالرغم من توفر التشريعات اللازمة لمكافحة هذه الآفة.

وهنا يتضح أن المشكلة لا تكمن في سن القوانين ولكن في تطبيقها، ويبقى إفلات الفاسدين من العقاب هو البلاء الحقيقي، ويتجلى التناقض عندما يفلت المتورطون كبعض المسؤولين على أعلى مستوى أو أقاربهم، في قضايا الفساد الكبيرة والفضائح المالية من قبضة القانون الذي وضع في الأساس ﻟﺨدﻤﺔ اﻟﻤﺼﻟﺤﺔ اﻟﻌﺎﻤﺔ قبل كل شيء.

لقد بلغ الفساد مستويات غير مسبوقة في الجزائر، على مدار العشريتين الماضيتين، ومن أكثر قضايا الفساد التي هزت المجتمع ونهشت جسد الاقتصاد، فضيحة "الخليفة بنك"، وملف الطريق السيار شرق-غرب، والمسمى بمشروع القرن، الذي كلف ميزانية الدولة 19 مليار دولار، بعد أن رصدت له ميزانية أولية لا تتجاوز 7 مليارات دولار.

والأسوأ من ذلك، استمرار ظهور مهازل اهترائه وهشاشته، إلى جانب فضائح شركة سوناطراك، والتي إن دلت على شيء فإنما تدل على الاستهتار بالمال العام ونهبه وغياب مسطرة قانونية صارمة.

لقد طاول الفساد كبار المسؤولين السياسيين في الجزائر، من بينهم وزراء، كوزير الطاقة والمناجم السابق ومدير سوناطراك السابق، شكيب خليل، الذي فر إلى الولايات المتحدة إثر اتهامه بالفساد، بعد أن فجرت محكمة ميلانو فضيحة تورط كبار المسؤولين في مجمع "إيني" الإيطالي للنفط والغاز في تقديم رشاوي قدرت بحوالي 200 مليون يورو لمسؤولين في قطاع الطاقة الجزائري، مقابل الحصول على عقود مشاريع النفط والغاز وعقود امتيازات أخرى في الجزائر، بقيمة تتجاوز 8 مليارات يورو، بين سنتي 2007 و2009.

وما خفي كان أعظم، فقد كشفت المحكمة الإيطالية عن حالة واحدة فقط، وماذا عن العمولات على الصفقات الأخرى، وبعد هروب دام ثلاث سنوات إلى الولايات المتحدة، عاد الوزير السابق إلى الجزائر سنة 2016 بعد تبرئته.

وقد ورد اسم وزير الصناعة والمناجم السابق، عبد السلام بوشوارب، ضمن "وثائق بنما"، والتي أفادت بأنه أوقف أنشطة شركته في مجال الاستشارات والنقل البحري بعد توليه منصب وزير.

كما تأتي التقارير الدولية لتذكّر كل سنة بترسخ ظاهرة الفساد في الاقتصاد الجزائري، فوفقا لمؤشر مدركات الفساد لعام 2017 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتلت الجزائر المرتبة 112 من أصل 180 دولة. وفي تقرير التنافسية العالمية 2017-2018، احتلت المرتبة 92 من بين 137 دولة في مؤشر "المدفوعات غير النظامية والرشاوى"، وهكذا يساهم الفساد في تشويه مناخ الأعمال في البلاد كل مرة وينفر المستثمرين.


لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: أين الهيئة الوطنية للوقاية من الفساد ومكافحته من هذا الوضع المزري؟ وكأنها غير معنية بهذه القضايا أو غير موجودة تماما. لقد منحها الدستور والقانون صلاحيات كبيرة لمحاربة هذا السرطان، ولكنها لا تسبب إزعاجا ولا إحراجا، وما زالت في حالة صمت رهيب وهدوء عجيب يثير فضول أي مواطن يود أن يعلم لما لا تعمل ولا تحرك ساكنا.

هذه الهيئة لم تقدم أي برنامج ملموس لمحاربة الفساد منذ تعيين تشكيلتها في سبتمبر 2016، والأمر الذي يدعو إلى الدهشة أننا نسمع عن فضائح الفساد دوما من مصادر خارجية، حيث لم تكشف هذه الهيئة عن أي فضيحة من العيار الثقيل، ولم تتخذ أي إجراءات فاعلة للتصدي للفاسدين على الأقل، لتبين التزامها بالمهمة القانونية الموكلة إليها.

وهكذا فهي تضر بدلا من أن تنفع الاقتصاد الجزائري، وبالتالي فإن سكون هيئة بهذه الأهمية الاستراتيجية والحساسية ولاسيما مع المسؤولية الكبيرة الملقاة على عاتقها ما هو إلا صورة تعكس الوضع الراهن لمستويات الفساد في الجزائر.

ومن جهة أخرى، يشعر المواطن العادي بالعجز التام في مواجهة طوفان الفساد كما يرى بأم عينيه أن الجهود المبذولة من قبل الحكومة غير كافية للحد من تنامي الفساد، وهذا ما أكده تقرير منظمة الشفافية الدولية الصادر تحت عنوان "الناس والفساد: دراسة مسحية للشرق الأوسط وشمال أفريقيا 2016" والذي أفاد بأن 69% من الجزائريين يرون أن جهود حكومتهم في محاربة الفساد سيئة، وهذا ما يضع نزاهة مؤسسات القانون على المحك.

وعندما يستشري الفساد في القطاع العام فإنه يطلق نداء للاضطرابات المتصاعدة الناتجة عن تنامي مظاهر الاحتقان السياسي والاجتماعي، حيث شهدت الجزائر، في الآونة الأخيرة، سلسلة من الإضرابات شنها الأطباء والممرضون والمدرسون، وبدت الحكومة في بادئ الأمر غير قادرة على التغلب على قطار الفوضى، كما سماه رئيس الوزراء، أحمد أويحيى، في خطابه للمضربين، حيث تم فصل عدة مدرسين، كما تم إخطار الآخرين بالفصل إذا واصلوا إضرابهم.

استفحال الفساد يجر حتما الاقتصاد إلى الهاوية، لذلك ينبغي إيجاد حلول جذرية له بدلا من التساهل مع الفاسدين حتى لو كانوا مسؤولين.


ولولا وفرة النفط لما أصبح الفساد بهذا الحجم الكارثي في الجزائر، من كان يصدق أن تلك النعمة السماوية ستصبح نقمة لا تعفي المواطنين فقط من تنمية قدرات الإنتاج والتفكير الإبداعي ولكنها أيضا سمحت بظهور الفساد، ويأتي ذلك السائل الأسود لصالح الأقلية من مواطنين كالمسؤولين مثلا وعلى حساب غالبية المواطنين الذين يدفعون ثمن تدهور الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية وحتى السياسية للبلاد.

لم تمكن سنوات البحبوحة المالية الجزائر من تضييق رقعة الفقر وتحقيق معدلات نمو أعلى من نظيراتها الفقيرة في الموارد، والفضل يعود لسيل الفساد الذي لا ينضب.

وعند انخفاض أسعار النفط، تنهال الإجراءات التقشفية الصارمة على المواطنين لتعصر ما تبقى في جيوبهم، وهنا يجب أن يعلو صوت الحق ليقول إن هناك مقابلا يجب أن يحصل عليه كل مواطن قبل الموافقة على شد الأحزمة، ويتمثل هذا المقابل في تحقيق العدالة ومحاسبة الفاسدين واسترجاع المليارات المنهوبة.

وبعد تجاوز خام "برنت" مستوى 79 دولارا للبرميل، من المفروض أن يولد هذا الارتفاع في أسعار النفط شعورا بالفرح لا بالنكد، ولكن يخيم الشعور بالبلادة على الأجواء لليقين في أن الفساد قد وجد مرة أخرى منبعا ليرتوي منه، فبدلا من أن يسهل ريع النفط رسم السياسة العامة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية ويساهم في تحقيق نمو يشمل الجميع بمنافعه، أصبح لعنة في نظر الكثيرين.

الثروة النفطية هي أصل كل المشاكل التي عانت منها الجزائر منذ حصولها على الاستقلال، ومصدر كل التشوهات الهيكلية التي جعلت من الاقتصاد الجزائري اقتصادا ريعيا هشا.

والأدهى من ذلك أن تجد أن هناك من يبرر الوضع الراهن بوجود ظاهرة الفساد وانتشارها في كل دول العالم، وأن الجزائر ليست استثناء من هذه القاعدة.

وفي الواقع، فإن هذا الاستثناء ما هو إلا نتيجة لضعف سيادة القانون وغياب الردع القانوني. وبزوال هذه الثروة الطبيعية، ستشمر الجزائر عن سواعدها ويصبح مسؤولوها أكثر عقلانية وأكثر استعدادا لمواجهة تحديات حقبة ما بعد النفط.

وقبل حدوث ذلك، ينبغي على الحكومة تجنب الحلول الترقيعية، وضمان الشفافية والمساءلة، واستغلال انتعاش أسعار النفط في الوقت الحالي من أجل وضع نموذج اقتصادي متكامل يوفر على البلد عقدا أسود آخر من الفوضى قبل استنزاف احتياطيات النقد الأجنبي.

المساهمون