القطاعان العام والخاص

القطاعان العام والخاص

11 ابريل 2018
شعوب كثيرة تناهض سياسات الخصخصة (كريس فاغا/Getty)
+ الخط -
يتحدث الذين يؤمنون بالرأسمالية الاجتماعية، عادة، عن ثلاثة قطاعات أو مكونات رئيسية لأي مجتمع أو دولة: القطاع العام، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني بأحزابه وجمعياته ومنظماته المختلفة. ويشيرون أحياناً إليها على أنها قطاع الحكومة، وقطاع الأعمال، والقطاع الاجتماعي.

وفي رأي هؤلاء، أن ترك الأمور للقطاعين العام والخاص لا يكفي، إلا إذا تفاعلت القطاعات الثلاثة معاً لتنتج قراراتٍ هادفةً فاعلةً، تلقى رضا الناس وقبولهم.

وعلى الرغم من وجاهة هذا التصور، إلا أن حديث اليوم ينصب على قطاعي الحكومة والأعمال، أو القطاعين العام والخاص.

وبغض النظر عن الفلسفة الحاكمة والمعتقد الاقتصادي، اشتراكياً أو رأسمالياً، أو كانت فيه الأمور مختلطة بين الطريقتين، فإن الشكوى الطاغية لدى القطاع الخاص في أقطار الوطن العربي هي أن الحكومة لا تأخذ القطاع الخاص على محمل الجد، وأن معظم التصريحات التي تؤكد مزايا التشاركية بينهما حبر على ورق.

ولقد أصبحت هيمنة الحكومات على قطاع الأعمال وسيلة لتعزيز سلطتها على الاقتصاد، وطريقة لمكافأة من ترضى عنهم الحكومات، ومعاقبة الذين لا ترضى عنهم وإقصائهم.

وتشكو الحكومات في المقابل من أن القطاع الخاص العربي يريد من الحكومة أن تكون شريكته، حتى تمكّن أصحاب الحظوة منهم من الفوز بالعطاءات، والجلوس في مواقع صنع القرار، والاستعانة بذلك النفوذ لكي تخيف به المنافسين.



وتقول الحكومات إن هذا القطاع لا يبادل المنافع مع الحكومة، حين تتأزم أوضاعها المالية، بل هم أول من يلجأ إلى تهريب أمواله، والمبادر إلى ادعاء الفقر عند الحاجة، ويصبح حال الحكومة مع القطاع الخاص صاحب الحظوة ما قاله الشاعر:

جواد إذا استغنيت عن أخذ مالهِ/ وعند احتمال الفقر عنك بخيلُ.
فما أكثر الإخوان حين تعدهم/ ولكنهم في النائبات قليلُ.

ولكن الواقع أن الحكومات هي التي تتصرّف حيال القطاع الخاص على أنها صاحبة اليد العليا، وهو صاحب اليد السفلى، وأنه، أي القطاع الخاص، يأخذ أكثر مما يعطي.

ولكن الواقع أن هنالك حالات من التضافر والتعاضد بين فئة محدّدة من القطاع الخاص من ناحية والحكومات من ناحية أخرى.

وتنبع هذه العلائق المريحة إما من ولاء تام للحكومة، ما يجعلها مطمئنة إليه، أو لأنه لبعض رجال الأعمال علاقات، ويمثلون وكالات تابعة لدولٍ كبرى، تسرع إلى الدفاع عنهم، إن وقع عليهم ضرر أو وقعوا في خلافٍ مع حكومة دولتهم. وهنالك صلات القرابة، والعشائرية، والتجمعات الخاصة.

وفي بعض الدول العربية، يسمح للمتنفذين السياسيين أن يقوموا باستثماراتٍ وأعمال خاصة، وأن يديروا المؤسسات القائمة على ذلك، وهم في مركز المسؤولية العامة. ولكن غالبية الدول تمنع على الوزراء والموظفين العامين أن يمارسوا أي عملٍ تجاري، وهم في سُدّة الحكم.

كانت هذه العلاقة مقبولة، وغير مرتبطة مباشرة بالفساد، عندما كانت الدول العربية في معظمها تتمتع بالقدرة على تحمل أعباء النظام الريعي، أو توزيع المغانم بدون مغارم. وقد سادت النظرية وتعزّزت إبّان فترات الشدة والكساد، حيث تصبح الحكومة المعيل الأخير لغالبية الناس، تكفيهم قوتهم وحاجاتهم الأساسية، وفي فترات الازدهار المالي، خصوصا بعد هزة النفط في النصف الأول من سبعينيات القرن الماضي.

وقد صار النفط مصدر رزق، ليس للدول المنتجة لهذه المادة الاستراتيجية وحسب، بل أصابت آثارها بشكل مباشر دولاً عربية ومجاورة ليست نفطية. وقد توسّعت الحكومات في الاستثمار في البنى التحتية ورأس المال الاجتماعي، ما وسع من الدوائر العامة، وزاد بنسب كبيرة أعداد الموظفين في الدولة.

وقد لجأت دول كثيرة إلى منح العاملين لديها وباقي المواطنين مزايا إضافية فوق رواتبهم المنتظمة، مثل بيعهم الماء والكهرباء والسلع الرئيسية بأسعار مدعومة، وتقديم السكن ووسائل الاستثمار والتقاعد المريح.



وقد أدى هذا إلى إحداث نموٍّ كبير في نفقات الحكومة. ولكن، لما بدأت الحكومات تفقد بعضا من مواردها النفطية، وتراجعت عوائد استثماراتها، وزادت أعباؤها العسكرية والأمنية، وارتفعت كلف البنى التحتية والخدمات العامة بناءً وصيانة، بدأت الحكومات تشعر بالضغط الكبير على مواردها.

من أين ستأتي الحكومات بالمال لتغطي العجز في موازناتها والفرق بين إيراداتها ونفقاتها؟ كان لا بد لها أن ترجع إلى القطاع الخاص الذي بنى جزءاً كبيراً من ثروته من الدخل الذي حصل عليه من الحكومات. وصارت الحكومة هي المرضع، واشتكى القطاع الخاص الذي تعوّد على الرضاعة من حليبها من أنه جائع عطشان، بعدما كان شبعانَ وريان.

تبين الاجراءات التي اتخذتها دول الخليج، في الأعوام الثلاثة الماضية، تحولاً كبيراً لها زوايا محدّدة. أولها أن عهد الريعية بدأ بالزوال، ويحل مفهوم الإنتاج مكانه. والأمر الثاني أن قدرة الحكومات حتى وهي تزيد من جبايتها على تحمل الأعباء المالية صارت في تراجع، ما يعني أن الحكومة مضطرّة إلى أن تقلل الدعم، وتزيد من تحصيلاتها عبر فرض ضرائب ورسوم جديدة، وزيادة الضرائب والرسوم الحالية.

هذا الأمر، وإن بدا غير ممكن في الوقت الراهن، إلا أنه قادم، فالحكومات حالياً تستخدم سطوتها لتقول للناس إن لدينا أهدافاً يجب تحقيقها، وهي تنويع الاقتصاد وتقليل الاعتماد على النفط والغاز المعرّضين لتراجع الطلب ونفاد المخزون، ودعم الاعتماد على الذات، وتعزيز الاستقلالية الاقتصادية والدولة بشكل عام، وتقليل الوظائف الحكومية، والانتقال إلى الحكومات الرقمية والاقتصاد المعرفي.

وتسعى الدول العربية إلى طرح ثورة بيضاء، يقودها زعماء شباب، كما هو الحال في السعودية، وقطر، والأردن، والمغرب. أما الزعماء الأكبر سناً فقد عينوا رؤساء وزارات ومسؤولين شبابا لتنفيذ تصوراتهم.

ولكن هذا الأمر يتطلب إعادة نظر شاملة في العلاقة بين القطاعين العام والخاص. وإذا أصبح القطاع الخاص عبر الفوائض التي يحققها مصدر الاستثمار الإنتاجي، والشريك في البنى التحتية والمرافق العامة، ودافع الضرائب المصدر الأساس لإيرادات الحكومات، فإن موظفي القطاع العام سيصبحون خُداما للقطاع الخاص الذي ينفق عليهم.

هل نحن جاهزون لهذه النقلة؟ هل نحن جاهزون للحوكمة والشفافية والمساءلة عن أيلولة الضرائب التي تخرج من جيوب الناس؟

المسألة تتطلب مرحليةً وعقلانيةً في التنفيذ، حتى ولو أخذت زمناً أطول مما نعتقد أنه ممكن.

المساهمون