بيع الشركات المصرية

بيع الشركات المصرية

27 مارس 2018
هل مفيد بيع الحصص في شركات ناجحة؟ (فرانس برس)
+ الخط -

مع اقتراب منابع القروض الإقليمية والعالمية من الجفاف، توجهت الحكومة المصرية، في خطوة متوقعة، إلى طرح بعض الشركات التي تملكها أو تملك أجزاء منها، للبيع.

وأعلنت الحكومة المصرية توجهها لطرح نسب من ثلاثٍ وعشرين شركة من شركات البترول والتأمين والخدمات المالية والبنوك والعقارات والبتروكيماويات للاكتتاب في البورصة المصرية.

ولست بصدد الدخول في معركة بيع القطاع العام أو التمسك به، فهذه المعركة استنفذت جهوداً كبيرة، ولم يتم حسمها بصورة واضحة، كما أنني أدرك تماماً أن الخيارات المتاحة أصبحت محدودة جداً أمام الحكومة المصرية، من أجل سد العجز في الموازنة العامة، وفي ميزان المدفوعات، وهو ما يدفعها حالياً لبيع أثاث المنزل، الأمر الذي سبق أن حذرنا منه من قبل.

ومع الإعلان عن قرار الحكومة، انشغل بعضهم بقضايا من نوعية كيفية التسويق لهذه الشركات من أجل العثور على مشترٍ، أو بقضايا سعر الصرف أو معدل الفائدة على الجنيه المصري، اللذين قد يمثل "عدم استقرارهما"، كما يزعمون، تحدياً لمتخذي القرار، وأهملت قضايا أخرى كانت أجدر بالمناقشة والحسم، في هذه القضية الشائكة، والتي غالباً ما يستحيل الرجوع عن القرارات المتخذة فيها، وإن اكتشفنا خطأها بعد حين.

أولى هذه القضايا، هي ضرورة قيام الحكومة المصرية بإقناع المواطنين أن قراراً مثل هذا ليس من إملاءات صندوق النقد الدولي، الذي وافق على إقراضنا اثني عشر مليار دولار قبل أكثر من عامين، خاصة مع تصريحات المسؤولين المصريين المتناثرة هنا وهناك، والتي تفيد بقيام فريق من الصندوق بمراجعة الموازنة العامة المصرية، قبل تقديمها إلى مجلس النواب.

هذه الأمور تحيي لدى المصريين أوجاعاً من ظروف مشابهة، وقت الاحتلال البريطاني لمصر، وهي ظروف يُفترض أن مصر تجاوزتها منذ عقود، ولا أعتقد أن مصرياً يقبل تكرارها الآن. وأدعو الله أن تكون معلومة وجود "ممثل دائم" لصندوق النقد في وزارة المالية المصرية، التي يرددها بعضهم، غير صحيحة.

ومن ناحية أخرى، فإن هناك تحفظاً كبيراً على الشركات التي تم اختيارها للبيع، ذلك أن أغلبها شركات ناجحة، وتعمل بكفاءة عالية، ويعمل بها آلاف من خيرة الموظفين المصريين، كلٌ في مجاله.




ولقد تعاملت شخصياً مع العديد منهم، وخاصة في قطاعي الخدمات المالية والبترول، وأعرف بعضهم بالاسم، وأشهد بأنهم على قدرٍ عالٍ من العلم والكفاءة والتدريب.

كما أن هذه الشركات تحقق أرباحاً ضخمة بمعايير كل نشاط، وهو ما ينفي تماماً الأساس الذي يستند إليه مؤيدو بيع الشركات، والذين يدعون أن البيع سيؤدي إلى ارتفاع كفاءة وجودة الجزء المتبقي من ملكية الحكومة في هذه الشركات.

ويبدو الأمر هنا أشبه برجل ثري، لديه العديد من الاستثمارات، بعضها مثمرٌ، يُؤتي أُكُله كل حينٍ، وبعضها الآخر لا يسمن ولا يغني من جوع.

فلما مر الرجل بضائقة مالية، قرر أن يتخلص من الاستثمارات المثمرة! وهو ما أضعف قدرته المستقبلية على توليد أرباح ينعم بها أبناؤه وأحفاده، وعطل جهود خروجه من الضائقة المالية التي يمر بها، بتفضيله الحل الأسهل، الذي يسد حاجته الحالية، ويتجاهل حق أبنائه في هذه الثروات.

هذا خطأ استراتيجي، لم نرتكبه حتى في طفولتنا في لعبة "بنك السعادة" الشهيرة، ومن منا باع مجموعة القاهرة - دمشق - أسوان بعد امتلاكها ولم يُفلس ويخسر دوره لمن باع له؟!

أضف إلى ذلك أن الحكومة أعلنت أن بيع هذه الشركات يهدف، من خلال الثمانين مليار جنيه التي يتوقع توفيرها من جراء هذا البيع، لسد العجز في الموازنة العامة للدولة، وهو مرة أخرى توجه قصير النظر من الحكومة، يرى ما تحت قدميه فقط، حيث تُجمع المدارس المؤيدة لتخلي الحكومة عن حصصها في الشركات لصالح القطاع الخاص، على ضرورة توجيه الحصيلة نحو استخدامات أفضل، تدر عائداً أعلى، وتحسن كفاءة، وترفع إنتاجية الأصول الأخرى التي تحتفظ بها الحكومة، بما يوجد أثراً مضاعفاً لهذه الحصيلة، يستمر لسنوات وسنوات. أم أن يتم إنفاق الحصيلة على سد عجز الموازنة هذا العام، فماذا عسانا نفعل في العام القادم، وما يليه من أعوام!

ومع كل ما سبق، تبقى أهمية الشفافية والحوكمة في كل مراحل عملية البيع، وما يليها من خطوات، خاصةً مع تراكم العديد من الذكريات الأليمة في عمليات بيع سابقة للقطاع العام، شابها بعض الفساد، وسوء الإدارة، وانعدام الكفاءة. الأمر الذي يستلزم طرح هذه العملية للنقاش المجتمعي، وعرض كل التفاصيل بوضوح، مع استدعاء المتخصصين من خارج القطاع الحكومي، للاستفادة من علمهم وخبراتهم في اتخاذ القرار.

ولا يخفى علينا أنه في حالات كثيرة سابقة اتخذت قرارات على قدر عالٍ من الأهمية دون الرجوع إلى المتخصصين قبل اتخاذها، وهو ما أدى إلى اللجوء إلى القضاء، والانهماك في صراعٍ، استنفد كثيراً من الوقت والجهد والمال، قبل صدور أحكام، قضت محكمة أخرى أعلى بعدم الاعتداد بها لعدم الاختصاص، ثم سمعنا بعد ذلك من يطلب منا "عدم التكلم في الموضوع مرة أخرى".

الأمر جد خطير، والرجوع فيه بعد اتخاذ القرار لن يكون أمراً هيناً، وربما يتسبب في إحجام الاستثمار الأجنبي عن دخول السوق المصرية لسنواتٍ طوال. ولذلك أتمنى أن يراجع المسؤولون أنفسهم، وينظروا في نوع آخر من الأصول التي نملكها حالياً، ويجيبوا عن تساؤل بسيط:

هل يُفَضل في الظروف الحالية بيع مساهمة الحكومة في بعض الشركات الناجحة التي تحقق أرباحاً ضخمة لسد ما قيمته أربعة مليارات ونصف المليار من الدولارات من عجز الموازنة، أم أن هذه الخطوة يمكن الاستغناء عنها بتقليل احتياطي النقد الأجنبي لدينا، والذي تجاوز الاثنين وأربعين ملياراً من الدولارات؟ مع رجاء عدم الاستعانة بصديقنا العزيز صندوق النقد الدولي عند الإجابة.

دلالات

المساهمون