بقرات العرب المقدسات

بقرات العرب المقدسات

08 فبراير 2018
تسعى الدول العربية إلى الخروج من حالة الاقتصاد الريعي(Getty)
+ الخط -
أصدر الاقتصادي إليكس روبنر عام 1970 كتابه "البقرات الثلاث المقدسات في الاقتصاد"، (Three Sacred Cows of Economics) وهذه البقرات المقدسات هي الناتج المحلي الإجمالي والتنبؤ بالمستقبل والتخطيط.
وبالطبع، يجب أن تشتمل أي خطةٍ تنمويةٍ على قراءات للمستقبل حول الناتج المحلي الإجمالي الذي يُسعى إلى الوصول إليه.
وقد أحدث الكتاب ضجة عند نشره، لأنه يتناول مؤشرات الناتج المحلي الإجمالي، والتنبؤ بالأرقام، والتخطيط بالنقد، وقد انقسم الاقتصاديون في تلك الفترة إلى فريقين: يؤمن الأول بلغة الرقم والتنبؤ واستخدام النماذج الرياضية المعقدة، وهم الاقتصاديون الجدد من الشباب المغرم بالتحليل الكمي.

وفريق آخر يؤمن أن إدخال المفاهيم الرياضية والفيزيائية والهندسية إلى علم الاقتصاد جعلته علماً اجتماعياً أكثر دقةً من العلوم الاجتماعية الأخرى، لكنهم قالوا إن الرقم والتحليل الكمي لا يغنيان عن استخدام التحليل العقلي.
لكن هذا المنطق، مع وجود البرامج المتقدمة، والتطور الهائل في مجال المعلوماتية، لم يعد ذا شأن لدى الاقتصاديين، بل أصبحت دقة التنبؤ هي الفاصل بين نموذج ناجح وآخر أقل نجاحاً.

وقد أصبحت معظم أقطار الوطن العربي، خصوصاً في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وبعد ارتفاع أسعار النفط أو ما سميت "هزة النفط" أكثر استخداماً لهذه البقرات الاقتصادية الثلاث، ووضعت خططاً تنموية معظمها خماسي (مدة الخطة خمس سنوات)، تسعى من خلالها إلى تحقيق معدلات نمو في الناتج المحلي الإجمالي يفوق معدل النمو السكاني.
وقد تبنت معظم الخطط النماذج الاقتصادية الكمية والبسيطة. ولم تتبنَّ دول عربية كثيرة نماذج اقتصادية معقدة كالتي وضعتها كل من جامعة هارفارد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ولا حتى قاربت في بساطتها نماذج جامعة شيكاغو والبنك الفيدرالي الاحتياطي في سانت لويس في ولاية ميسوري.

ولكن في التسعينيات، وتحت إدارة رئيس الوزراء المصري آنذاك، الدكتور عاطف عبيد، أنشأ شاب خريج لمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، اسمه الدكتور هشام الشريف، مركزاً برئاسة الوزراء المصري، من أجل قياس تأثير السياسات على مختلف القطاعات.
ولما زرت مركز تقييم صنع القرار في القاهرة قرّرت بصفتي رئيس الفريق الاقتصادي في الحكومة الأردنية أن أدعو الشريف إلى زيارة عمّان، لنتعلّم منها عن إنشاء ذلك المركز.

ومع أن المركز لم يقم في رئاسة الوزراء، فقد تبنّى الدكتور زياد فريز نموذجاً في البنك المركزي الأردني، وتبنّت وزارة المالية نموذجاً آخر يلائم أغراضها، وكذلك وزارة التخطيط. أما أنا فقد قمت، لمّا كنت رئيساً للمجلس الاقتصادي والاجتماعي في الأردن، بتبنّي نموذج رابع. وهنالك نموذج خامس لدى دائرة الإحصاءات العامة.
وقد صار لدى دول عربية كثيرة نماذجها الكلية الخاصة بها في تونس والمغرب ولبنان. وهذه المراكز يجب أن تنشئ لها نادياً أو تجمعاً لتعميم الفكرة على كل الأقطار، لجعل التخطيط والتنبؤ بالمستقبل وفق محدّدات وافتراضات معروفة أمراً ممكناً ومعتمداً. وبهذا، نتجنّب أخطاء كثيرة في وضع السياسات.

وينسى سياسيونا واقتصاديونا في الوطن العربي أبسط الحقائق، عندما يتخذون قراراً لهدف واحد، وهو زيادة الإيرادات العامة، أو تقليص الدعم، أو تقليص العجز في الموازنة. ولكن ما يجري أن قراراً برفع التعرفة الجمركية لن يقتصر على أثر زيادة الإيرادات، بل يؤدي إلى تقليل الاستيراد، ورفع الأسعار، وقيام دول أخرى بإجراء مماثل مناكف، هذا عدا عن الخسارة الميتة التي تعتبر خسائر يتكبدها بعضهم من دون أن تزيد دخل أحد آخر.
تسعى كل الدول العربية الآن إلى الخروج من حالة الاقتصاد الريعي إلى الاقتصاد المنتج. وتجد نفسها أمام شكاوى عريضة من المواطنين الذين يشكون من أثر هذه القرارات على موازناتهم.

وكذلك، هناك دول عربية أخرى مضطرة للدخول في معركة إعادة الإعمار، بعد كل الخسائر التي تكبدتها جرّاء الحروب والفتن وسفك الدماء. وكل هذه الدول بحاجة إلى منهج عملي مدروس.
وبالطبع، دقة المعلومات التي توضع في أجهزة الحاسوب هي التي تعطيك نتائج دقيقة مصدقة، أما إذا وضعنا معلوماتٍ خاطئة، فستكون النتائج مضللة، وعلى عكس ما نتمنّى.
ليست القضية قضية بقرات مقدسات، ولا هي قضية تنافس باستخدام نماذج معقدة من آلاف المعادلات. إنما الهدف هو رفع سوية صنع القرار في الوطن العربي، وتحسين آلياته. لأن الأخطاء التي تُرتكب في الإحصاءات، وفي القرارات الساذجة المسطحة التي تعتمد عليها، تسبب كثيراً من الأذى والمشكلات والهيجان المجتمعي ضد القرارات، وإن كانت صائبة. 

وحيث إن معظم القرارات الاقتصادية تؤخذ في غرف مغلقة، فإن احتمالية استفادتها من المعلومات والتحليلات المتاحة لن تكون ممكنةً إلا بالنزر اليسير. وعادة ما يجلس الإحصائيون والمبرمجون في الصفوف الخلفية، ويعطون المعلومات لمن يطلبها منهم.
ولعل من أفدح الأخطاء ما تقوم به دول عربية تستضيف أعداداً كبيرة من اللاجئين أو العمال المقيمين، لكنها لا تحسبهم عند الضرورة من مجموع السكان، فالناتج المحلي الإجمالي يُقسم على عدد المواطنين فقط، لكي يحسبوا معدل دخل الفرد في عام ما. ولكن المقيمين هم مواطنون اقتصاديون، ويجب أن يحسبوا ضمن عدد السكان، عندما يُراد احتساب معدل دخل الفرد. ولذلك يصبح هذا المؤشر مبالغاً فيه.

وإذا وضعت هذا الرقم الأساسي ضمن مخططاتك، أو ضمن النموذج الذي تعتمده لقياس الناتج الذي تريد الوصول إليه، تحصل على أرقام خاطئة.
نحن بحاجة إلى بقرات الدقة في المعلومات، والحذر في وضع السياسات، ورفع مستوى الدخل للأفراد والمجتمع.