عامان على تعويم الجنيه المصري

عامان على تعويم الجنيه المصري

06 نوفمبر 2018
التعويم أثر على فقراء مصر (فرانس برس)
+ الخط -
في الثالث من نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي، مرت الذكرى الثانية لقرار تعويم الجنيه المصري  مقابل الدولار، وهو القرار الذي أدى إلى انخفاض مستوى معيشة المصريين، وضياع نسبة كبيرة من قيمة ممتلكاتهم، بالإضافة إلى استنزاف أغلب موارد  الدولة التي تعتمد بصورة كبيرة على الاستيراد  وعلى القروض الخارجية، الأمر الذي استلزم ضرورة تقييم التجربة، خاصة مع وجود احتمالات لتكرارها، وإن كان بصورة أقل حدة، خلال النصف الثاني من العام المقبل 2019. 

بدأت القصة بعد أن ازدادت الضغوط على العملة المصرية أواخر عام 2013، وتوقفت أو كادت غالبية عمليات الاستيراد لعدم قدرة البنوك على توفير العملة الأجنبية المطلوبة، فانخفضت معدلات الإنتاج والاستثمار والنمو والتوظيف.

وقتها قررت الحكومة  المصرية اللجوء إلى صندوق النقد الدولي لطلب المساعدة، رافعةً قيمة المبلغ المطلوب إلى أكثر من اثني عشر مليار دولار، بعد أن توقفت المحاولات السابقة عند أربعة مليارات دولار فقط.

تحمس صندوق النقد للفكرة، لكنه أكد أن الجنيه المصري وقتها كان مقوماً بأكثر من قيمته الحقيقية، والتي قدرها الصندوق بأقل من تسعة سنتات، أي أن الدولار الأميركي يساوي اثني عشر جنيهاً مصرياً.

واعتبر الصندوق أن تثبيت سعر الجنيه وقتها عند مستوى يدور حول 8.8 جنيهات لكل دولار أمر غير واقعي، وأنه تسبب في عجز الميزان التجاري، بعد أن قلل تكلفة الاستيراد من الخارج، ونصح الحكومة بوضع برنامج للإصلاح الاقتصادي، كان من أهم نقاطه تعويم الجنيه، لكي يتم تحديد سعره وفقاً للعرض والطلب فقط.
بعد التعويم، وصل سعر الدولار مقابل الجنيه إلى حوالي عشرين جنيهاً لكل دولار، قبل أن يرتد بعدها بفترة ليستقر عند مستوى 17.75 إلى 18 جنيها، مع وجود قيود (غير معلنة) من البنك المركزي، تحد من حركته خارج هذا النطاق.

وعلى الرغم مما تسبب فيه قرار التعويم من انخفاض قيمة أجور العاملين المصريين، التي لم تستطع مواكبة ارتفاع الأسعار بعد وصول التضخم إلى 34%، وبالتالي انخفاض مستوى معيشة الأغلبية الكاسحة منهم، ونزول نسبة كبيرة من الطبقة المتوسطة تحت خط الفقر.

بالإضافة إلى ضياع جزء كبير من قيم مدخراتهم واستثماراتهم بالجنيه المصري (كما حدث في 64 مليار جنيه هي قيمة شهادات استثمار قناة السويس، وأضعافها من شهادات وودائع في كل بنوك مصر)، فيمكن القول بدرجة عالية من الثقة إن القرار فشل في تحقيق الجزء الأهم من أهدافه.

وبعد عامين من قرار تعويم الجنيه، لم ينخفض العجز في الميزان التجاري، لزيادة الواردات بصورة أكبر من زيادة الصادرات.

ولم ينخفض العجز في ميزان المدفوعات بعد تراجع الاستثمارات المباشرة بصورة كبيرة، واقتصارها على الاستثمارات السعودية والإماراتية، في المجال العقاري والسياحي، مما لا ينتج سلعاً تصدر ولا يشجع ابتكاراً ولا يستقدم تكنولوجيا ولا يخلق وظائف إلا المؤقتة التي يتم تسريح شاغليها مع انتهاء المشروع، كما شهدت أغلب تلك الحالات بيعاً للأراضي بأسعار زهيدة في العديد من المناطق المميزة على سواحل البحرين الأبيض والأحمر وحول العاصمة القاهرة.

ومن ناحية أخرى، فقد تسبب احتياج الحكومة المصرية الشديد للعملة الأجنبية في لهاثها وراء المستثمرين الدوليين، حتى من يملكون فقط الأموال الساخنة.

وفرحت الحكومة بأكثر من عشرين مليار دولار تم ضخها في سوق أذون وسندات الخزانة المصرية، بمعدل فائدة تجاوز في بعض الأحيان العشرين بالمائة، ثم ما لبث أكثر من ثلثها أن خرج مع أول ارتباك في الأسواق الناشئة.

واستمرت الحكومة في الجري وراء القروض الخارجية، حتى تجاوز الدين الخارجي تسعين ملياراً من الدولارات، مؤكدةً في كل مناسبة أن هذا الدين ما زال في الحدود الآمنة، رغم غياب تام لموارد العملة الأجنبية التي نحتاجها لسداد تلك القروض.

وغنيٌ عن البيان والأمر كذلك، حجم العبء الملقى على الموازنة العامة للدولة المصرية، التي تأتي غالبية إيراداتها بالجنيه المصري، لسداد الديون الخارجية بالعملة الأجنبية، خاصة بعد التخفيض الكبير الذي حدث في قيمة الجنيه.
فالديون الخارجية وحدها تكلف الخزانة العامة للدولة ما يزيد عن 4 مليارات من الدولارات كل عام، من الفائدة المدفوعة فقط. وكذلك تنشط الأموال الساخنة، التي دخلت أذون وسندات الخزانة المصرية، فكلفت الاقتصاد المصري بعد عامين من التعويم ما يقرب من نفس القيمة (4 مليارات دولار أخرى).

لا يختلف الكثيرون على حتمية قرار التعويم الذي اتخذ، حيث تسببت السياسات السابقة، بتثبيت سعر صرف الجنيه، جزئياً أو كلياً، رغم التغيرات الحادثة في ميزان المدفوعات على مدار أعوام، في عدم واقعية سعره، مما ترتب عليه استمرار التدهور في ميزان المدفوعات المصري.

لكن الواقع يقول إن الطريقة التي تمت بها إدارة هذا التعويم جانبها الصواب، بدرجة أثرت في فاعليتها بشكل كبير. وكان من أهم أسباب ما حدث عدم إدراك الحكومة حقيقة أن الاستثمار الأجنبي المباشر لا يدخل الدولة بناءً على قيمة عملتها مقابل الدولار فقط، وإنما يبحث عن بنية تحتية تشريعية وحقوقية، تضمن له على أقل تقدير مساراً قضائياً واضحاً في حالة حدوث خلاف، كما يسعى المستثمر لتجنب المستويات شديدة الارتفاع من الفساد، كونها تقتطع نسبة كبيرة من العائد على استثماراته.

ومن ناحية أخرى، فإن علاج عجز الميزان التجاري كان يستلزم إجراءات شجاعة وقتها، بخلاف ما تم فرضه على استحياء من تعريفات جمركية هزيلة، مراعاةً للموالين من طبقة رجال الأعمال.

ويمكن ملاحظة ذلك عند النظر إلى ما أقدمت عليه تركيا قبل أسابيع، وقت احتداد أزمة عملتها الليرة، من وقف استيراد تليفونات آبل (آيفون)، بينما انتظرت الحكومة المصرية أكثر من اثنين وعشرين شهراً، قبل أن ترفع التعريفات المفروضة على واردات البلاد من أطعمة الكلاب والقطط من 30% إلى 40%.