لماذا يعجز العرب عن محاكاة رواندا اقتصادياً؟

لماذا يعجز العرب عن محاكاة رواندا اقتصادياً؟

26 نوفمبر 2018
استطاعت راوندا تطوير اقتصادها (Getty)
+ الخط -
تمكَّنت رواندا من التحوُّل من بلد فقير ومُمزَّق بالحروب إلى نجم اقتصادي  ساطع في سماء أفريقيا، فقد استطاعت كتابة فصل جديد في قصّة الدول الأفريقية  المليئة بالحروب والانقلابات المفاجئة وحكم الحزب الواحد الذي يتوِّج القمع بالفقر، وأن تثبت لكل منتقديها أنّهم كانوا على خطأ، لا سيَّما أولئك الذين تركوها في وقت الحاجة ووصفوها بأنّها حالة ميؤوس منها.

ذلك البلد الذي شهد نمواً سلبياً  خلال وبعد الإبادة الجماعية التي خلَّفت أكثر من مليون قتيل وآلافاً من النازحين، يعدّ اليوم أحد أسرع الاقتصادات  نمواً في العالم، حيث حقَّق قفزة نوعية من معدل نمو اقتصادي سلبي بلغ -11.4 % في عام 1994 إلى 7 % في عام 2014، حتى أطلق البنك الدولي سنة 2014 على رواندا اسم "الاقتصاد الأكثر تحسُّناً في جميع أنحاء العالم".

كذلك بلغ معدل النمو الاقتصادي السنوي لرواندا 6.1 % في النصف الثاني من عام 2017، بفضل تحقيق مكاسب كبيرة في أداء الصادرات، وتنشيط الزراعة، ومن المتوقع أن يتسارع النمو إلى 7.2 % مع نهاية العام الجاري 2018 وإلى 7.5 % في العام 2019.

أظهرت رواندا أنّها قصّة النجاح العظيمة لدولة ما بعد الصراع في أفريقيا، فقد أحرزت تقدُّماً وأجرت إصلاحات سياسية واقتصادية معتبرة أشاد بها العديد من المنظمات الدولية، وتميَّزت بعدم النظر إلى الوراء على مدار مشوارها، حيث استمرَّت جماعات حقوق الإنسان بمهاجمة الحكومة الرواندية بسبب السياسات القمعية.

كما تعرَّض الرئيس الرواندي بول كاغامي أيضاً لانتقادات بسبب الموافقة على تغييرات دستورية تسمح له بالبقاء في السلطة لفترة ثالثة، طبعاً معظم النقاد هم أفراد من الغرب والذين تجاهلوا كثيراً التحديات التي واجهتها البلاد، كما استعصى على فهمهم أنّ رواندا بلد لا يحاول فقط أن يشفى من الجراح العميقة التي سبَّبتها الإبادة الجماعية، ولكن حاولت أيضاً التخلص من التدخُّل الغربي الذي أضرَّ بآفاق البلاد بعد رحيل المستعمرين.

فقد تمكَّن هذا البلد من ضمان السلام انطلاقاً من أشلاء رماد إبادة جماعية مُروِّعة ومكَّن من عودة اقتصاده للوقوف على قدميه وكافح الفساد وسمح بزرع الثقة من جديد في نفوس المواطنين.

نموذج اقتصادي مميز

يصعب على الدول العربية تكرار قصّة النجاح الاقتصادي الرواندية بسبب افتقار الحكام العرب إلى الإرادة الكبيرة التي يتمتَّع بها الرئيس الرواندي بول كاغامي، والذي خفّض التوتُّرات العرقية، مما ولّد الاستقرار اللازم للتجديد الاقتصادي، كما انتهج سياسة حازمة لإعادة الإعمار السياسي والاقتصادي سنة 1994.

وبدلاً من الجلوس وانتظار المستثمرين الأجانب لإطلاق العنان للنمو الاقتصادي، تمتَّعت الحكومة الرواندية آنذاك بروح الاعتماد على الذات التي فسحت المجال للعديد من المبادرات، وقامت الحكومة بتنفيذ نموذج اقتصادي يُركِّز على مكافحة الفساد، وإعادة بناء البنية التحتية، وزيادة الإنتاجية الزراعية وتحفيز السياحة، كما قامت بتوجيه العديد من الاستثمارات نحو المناطق التي كانت تعاني من الركود في السابق.

وعلى عكس الدول العربية، لم تقوِّض الهيمنة الاقتصادية والسياسية للجبهة الوطنية الرواندية جهود التنمية، لأنّ الأموال التي تمّ توليدها من خلال الشركات المملوكة للأحزاب قد أُعيد استثمارها في الاقتصاد الوطني، وهذا ما يستحيل تحقيقه في الوطن العربي حيث توجد هيمنة سياسية لجهات واحدة، ولكن بالمقابل ينتشر الفساد وتغيب إرادة الإصلاح وخدمة مصالح المواطنين.

أمل لسورية واليمن

لقد مضى عقدان على مذبحة رواندا التي بدأت في إبريل/ نيسان 1994 وقُتِل فيها ما يقارب مليون شخص، فمنذ تلك الإبادة الجماعية لم تشهد الأمم المتحدة تدفُّقاً مخيفاً للاجئين حتى اندلاع الحرب السورية، حسب تقريرها الصادر سنة 2016.

لقد عاشت رواندا نفس الحال المزري الذي يعيشه حالياً اليمن وسورية، لذلك ما زال هناك أمل كبير لهذين البلدين العربيين في إحداث التغيير وتحسين الأوضاع.

علَّقت رواندا آمالها على جيل الشباب وعملت على إنتاج جيل من الأطفال يتمتَّعون بتغذية جيدة وينمون ويتعلمون ويزدهرون، وبالتالي تمكّنوا من المساهمة في تنمية رأس المال البشري وكذا في النمو الاقتصادي.

هذا البلد الذي مزَّقته الحرب آنذاك يتباهى الآن بأنّ 97 في المائة من أطفاله يذهبون إلى المدارس الابتدائية، وهو أعلى معدل في أفريقيا.

وكما هو الوضع الآن في سورية واليمن حيث يقف المجتمع الدولي صامتاً أمام الجرائم المرتكبة ضد الإنسانية والمآسي الخطيرة، ففي السنوات التي تلت الإبادة الجماعية، اعتذر القادة الغربيون، من أبرزهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والأمين العام الأسبق للأمم المتحدة كوفي عنان، للشعب والحكومة الرواندية عن فشل المجتمع الدولي في التصرُّف خلال الإبادة الجماعية، لكن تمكَّنت رواندا من التقاط أنفاسها والمضي قدماً حتى صارت نجم أفريقيا الصاعد، وهذا ما يجب أن يبعث الأمل بالتغيير إلى الأحسن في كل من سورية واليمن وليبيا.

السعودية والاستفادة من التجربة

بالطبع لن تتمكَّن السعودية من اللحاق بركب النجاح الاقتصادي الرواندي، بالرغم من امتلاكها لإمكانات طاقوية هائلة تفتقر إليها رواندا، ويعود الفضل إلى السلوك الذي تنتهجه المملكة وكذلك إلى رضوخها الكامل للأوامر الأميركية، والتي لا تأبه تماماً للمستقبل الاقتصادي السعودي.

فالنجاح الذي حقَّقته رواندا جاء نتيجة لاستنباط الحل من الواقع الرواندي وبعيداً عن الوصفات المشبعة بالديمقراطية التي يفرضها الغرب بقيادة أميركا، والتي أصبحت وبفضل سياسات رئيسها ترامب بعيدة كل البعد عن النسق الديمقراطي، خصوصاً بعد موقفها من مقتل الصحافي السعودي جمال خاشقجي والانخفاض الذي تلاه في أسعار النفط.

ركَّزت رواندا في مشوارها الإصلاحي على تسخير كل إمكاناتها لتعزيز اقتصادها وتحسين المستوى المعيشي للمواطن الرواندي، بينما تركّز السعودية على تشتيت إمكاناتها وتسخيرها لخدمة المصالح الأميركية المُتعطِّشة باستمرار للمزيد.

حقَّقت رواندا إنجازات كبيرة في سياق العلاقات التجارية المتنامية مع المملكة المتحدة والهند وباقي الدول الأفريقية، في الوقت الذي تستمرّ فيه السعودية بقطع العلاقات مع جيرانها وشنّ عدوان على اليمن وقتل الصحافيين بطرق وحشية لا تمتّ للإنسانية بأية صلة والانصياع للأوامر الأميركية في مجملها وتفاصيلها. وفي الوقت الذي تتصدّر فيه رواندا قائمة أسهل الأماكن للقيام بأعمال تجارية والاستثمارية في العالم، تستمرّ المملكة بتشويه صورتها عالمياً وتنفير المستثمرين.

خلاصة القول إنّ الحكمة الكبيرة التي تتمتَّع بها الحكومة الرواندية مكَّنت من تحسين المستوى المعيشي لـ 12 مليون مواطن، فهل هذا صعب على الحكام العرب، خاصّة وأنّ دولهم تحتوي على إمكانات هائلة غير مستغلة بعد.

ففي عام 2000، وضعت حكومة كاغامي برنامجاً للتنمية أطلق عليه اسم "رؤية 2020" يهدف إلى تحويل رواندا من اقتصاد ذي دخل منخفض قائم على الزراعة إلى اقتصاد قائم على المعرفة بحلول عام 2020.

وها هي رواندا الآن تجسِّد تلك الرؤية على أرض الواقع، في الوقت الذي تتبجَّح فيه بعض الحكومات العربية بالرؤى الاقتصادية، كرؤية 2030 السعودية، بينما تجهل تماماً الطريق لتحقيق تلك الرؤى وتستمرّ في الركوع لرغبات الغرب الجامحة.