تونس تشهد أكبر إضراب منذ أعوام... وأزمة الأجور تتصاعد

تونس تشهد أكبر إضراب منذ أعوام... وأزمة الأجور تتصاعد

22 نوفمبر 2018
أفواج المشاركين اليوم في الإضراب التونسي العام (Getty)
+ الخط -

"معركة السيادة قبل الزيادة" هذا الشعار رفعه الاتحاد العام التونسي للشغل لتسويق الإضراب العام الذي نفذه اليوم الخميس، في قطاع الوظيفة العمومية، والذي وصفه الاتحاد بأنه الإضراب الأكبر منذ عام 2013، معتبرا أن خلافه مع الحكومة يتجاوز مطالب الزيادة في رواتب 650 ألف موظف إلى الدفاع عن حقوق دستورية للتونسيين تريد الدولة حجبها والتفريط بها تحت ضغط صندوق النقد الدولي. 

حشود من الموظفين استجابوا إلى نداء نقابتهم التي دعت لتجمع عمّالي كبير أمام مقر البرلمان الذي كان يفترض أن يبدأ في مناقشة مشروع قانون الموازنة في الجلسات العامة.

وتزامن تجمع الآلاف أمام البرلمان مع تجمعات عمالية في كل محافظات البلاد بدعوة من النقابات المحلية للدفاع عن مصالحهم ومساندة قرارات المركزية النقابية التي أعلنت اعتزامها التصعيد في الأيام القادمة.

وحسب بيانات كشف عنها عضو المكتب التنفيذي للاتحاد العام التونسي للشغل منعم عميرة لـ"العربي الجديد"، بلغت نسبة المشاركة العامة في الإضراب 90 %، مشيرا إلى أن هذه النسبة ارتفعت بعض المحافظات إلى 100% وشملت الوزارات والإدارات المركزية والجهوية والمحلية بكامل البلاد. وشمل الإضراب المدارس والجامعات والمستشفيات العامة إضافة للوزارات، وحافظت بعض الخدمات على الحد الأدنى لتسيير العمل.

الاحتجاجات نحو التصعيد

قال الأمين العام للاتحاد العام التونسي للشغل نور الدين الطبوبي، إن رواتب الموظفين باتت لا تغطي نفقات 7 أيام فقط نتيجة زيادة في كلفة المعيشة والتضخم، محملاً الحكومة مسؤولية محاصرة التونسيين بزيادات طاولت كل تفاصيل حياتهم.

وأعلن الطبوبي عزم الاتحاد التصعيد ومواصلة الاحتجاجات في الفترة المقبلة، مؤكدا أن هيئة إدارية (أعلى سلطة في النقابة) ستقرر غداً السبت أشكال الاحتجاج مستقبلا.

وأضاف: "لا نية للتراجع وسنواصل الدفاع عن الحقوق المكتسبة للشغالين والمتقاعدين ولن نسمح لأي حكومة بتمرير إملاءات تحاك في الغرف السوداء وراء البحار"، معتبرا تعديل الأجور حقّا وليس منّة من أي طرف. واعتبر إملاءات صندوق النقد الدولي بتجميد الأجور غير ملزمة للنقابة التي تصدت سابقا لمخطط التفويت في المؤسسات الحكومية وفق قوله.

وفي أكتوبر/ تشرين الأول الماضي تحصل الاتحاد العام التونسي للشغل على تعهد حكومي بعدم التفريط في مؤسسات القطاع العام والذهاب إلى خطة إصلاح لهذه الشركات بالشراكة مع النقابة.

وحذر صندوق النقد الدولي هذا الشهر من أنه يجب على تونس الإبقاء على كتلة أجور القطاع العام تحت السيطرة لتجنب مشاكل خطرة متعلقة بالديون وذلك بعد أن وافقت الحكومة على الزيادة في أجور نحو 150 ألف موظف الشركات الحكومية الشهر الماضي. وتهدف الحكومة إلى خفض فاتورة أجور القطاع العام إلى 12.5% من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2020، من حوالي 15.5% حاليا.

استحضار شعارات الثورة

المحتجون أمام البرلمان استحضروا شعارات الثورة المطالبة بالشغل والحرية والكرامة الوطنية، مؤكدين في تصريحات "العربي الجديد" على ضرورة تفعيل محاضر الاتفاقيات السابقة التي وقعتها الحكومة للزيادة في الأجور والقضاء على أشغال التشغيل الهش.

جزء من الأجراء المحتجين أمام البرلمان رفعوا أيضا أرغفة الخبز مذكرين الحكومة برمزية الزيادة في أسعار الخبز التي كانت في 26 يناير/ كانون الثاني 1978 وكانت سببا في الاصطدام المباشر بين الاتحاد العام التونسي للشغل والحكومة ما تسبب في سقوط ضحايا.

وقال الناطق الرسمي باسم الاتحاد العام التونسي للشغل سامي الطاهري في تصريح لـ"العربي الجديد" إن الهيئة الوطنية للاتحاد التي ستعقد غدا السبت، ستقرر شكل التحركات القادمة، مشيرا إلى أن ثلاث نقاط أساسية ستكون على جدول أعمال الهيئة وهي الزيادة في رواتب أجراء القطاع الحكومي والدفاع عن المرفق العام وتحرير القرار السيادي التونسي ليكون نابعا من رغبة الشعب التونسي وليس من السفارات وفق تقديره.

وتحدث الناطق الرسمي باسم الاتحاد عن انقلاب الحكومة على العمال والموظفين وتوجهها إلى تكريس السياسة الاقتصادية الليبرالية المنهكة للطبقات الضعيفة لحماية مصالحها مع الخارج بحسب قوله.

ومنذ انطلاق المفاوضات حول الزيادة في أجور القطاعين الحكومي والخاص تبنى الاتحاد العام التونسي للشغل ملف تحسين المقدرة الشرائية للأجراء عبر زيادة الأجور ودفع الحكومة نحو إجراءات اقتصادية جديدة تكبح الغلاء والتضخم وتواصل انزلاق الدينار إلى جانب منع الحكومة من فرض ضرائب جديدة على الأجراء ضمن مشروع قانون المالية للعام القادم.

وتكشف بيانات لمعهد الإحصاء الحكومي تتعلق تطور مؤشر أسعار الاستهلاك العائلي في الفترة المتراوحة بين عام 2013 وأكتوبر/ تشرين الأول 2018 عن زيادة بكلفة المعيشة بـ31.97% في 5 سنوات بمعدل زيادة سنوية يتراوح بين 3% و5%.

ومن بين 12 قطاعا اقتصاديا حيويا يعتمدها معهد الإحصاء في احتساب نسبة الزيادة في مؤشر الأسعار عرف 11 قطاعا زيادة في الأسعار الأساسية خلال هذه الفترة.

ويعاني التونسيون من ارتفاع قياسي في نسبة التضخم وتواصل انزلاق سعر الدينار مقابل اليورو والدولار بمعدل تراجع سنوي لقيمة العملة هذا العام قدرها الخبراء بـ25%.

وقال الخبير المالي وليد بن صالح لـ"العربي الجديد" إن شرخا في القدرة الشرائية للمواطنين حصل بفعل ارتفاع نسبة التضخم التي بلغت في أغسطس/آب الماضي أرقاما قياسية بملامسة معدل 7.8%.

وأضاف بن صالح أن الزيادة في الرواتب يجب أن تكون مواكبة لزيادة الناتج الداخلي الخام حتى لا يجر البلاد إلى مزيد من التداين، مشيرا إلى أن القروض التي حصلت عليها تونس على امتداد السنوات التي تلت الثورة وجّهت إلى إطفاء حرائق اجتماعية من دون خلق الثروة ما تسبب في اختلال التوازنات المالية وارتفاع نسبة التداين إلى أكثر من 70% من الناتج الداخلي الخام.

وحول كلفة الإضراب العام على الاقتصاد الوطني وإيرادات الدولة من الضرائب المحصلة يوميا في مكاتب الجباية، قال الخبير المالي إنه يصعب حصرها، مشيرا إلى أن "الاقتصاد في كل الحالات خسر يوم عمل" وقد يخسر المزيد في حالة التصعيد.

إقرار حكومي بالضغوط

ورغم خيار تجميد الأجور الذي ذهبت فيه الحكومة، تقر هذه الأخيرة بصعوبة الوضع الاجتماعية والضغوط المعيشية التي يعاني منها التونسيون.

وأكدت الحكومة التونسية، أمس الأربعاء، أي قبل الإضراب بيوم، على "احترام الحق في الإضراب والتظاهر السلمي" وفق ما يكفله الدستور والقوانين، بعد فشل جولة من المفاوضات مع الحكومة للزيادة في أجور الموظفين.

وشدد رئيس الحكومة خلال جلسة لمجلس الوزراء التونسي على ضرورة حماية القدرة الشرائية للمواطنين واتخاذ الإجراءات الكفيلة بالتحكم في الأسعار، والتقليص من عجز الميزان التجاري وتحسين تنافسية الاقتصاد المحلي ومؤشرات التنمية والاستثمار والتجارة الخارجية.

وكشف الشاهد أمام البرلمان بمناسبة منح الثقة للوزراء الجدد الأسبوع الماضي، عن خطة لخفض الأسعار ومحاصرة أسباب التضخم مؤكدا نية الحكومة شن حرب على المحتكرين والمضاربين المتسببين في الغلاء.

ووعد الشاهد بتفعيل كل الآليات الرقابية والردعية وتغليظ العقوبات على من سيتورطون مستقبلا في المضاربة في الاحتكار.

بدوره، قال الناطق الرسمي باسم الحكومة إياد الدهماني، أمس الأربعاء، أن الحكومة تبقي على باب التفاوض مع النقابة مفتوحا، وأنها ستعرض على الاتحاد العام التونسي للشغل سلة إجراءات من أجل تحسين القدرة الشرائية للموظفين، من دون الكشف عن تفاصيل هذه الإجراءات.

وقال الدهماني: "لو كان رئيس الحكومة يبحث عن الشعبية أو كانت لديه مصالح انتخابية لكان وقع على الزيادة في الأجور.. لكن إذا كنا لا نملك التمويلات من سيمول هذه الزيادات؟".

وحذّر ‭‬الدهماني من أن صندوق النقد الدولي والبنك الدولي والبنك الأفريقي للتنمية والاتحاد الأوروبي سيتوقفون عن دعم الاقتصاد التونسي في حالة عدم التزام الحكومة بالإصلاحات المطلوبة.

ويقول مسؤولون أن كتلة أجور القطاع العام تضاعفت من 7.6 مليارات دينار (2.6 مليار دولار) سنة 2010 إلى حوالي 16 مليار دينار (5.5 مليارات دولار) سنة 2018. واتفقت تونس مع صندوق النقد الدولي في 2016 على برنامج قروض تبلغ قيمته نحو 2.8 مليار دولار لإصلاح اقتصادها المتدهور مع خطوات لخفض العجز المزمن وتقليص الخدمات العامة المتضخمة لكن التقدم في الإصلاحات كان بطيئا ومتعثرا.

عزوف الكفاءات

الخبير في التنمية حاتم المليكي، قال لـ"العربي الجديد" إن استثناء أجراء الوظيفة العمومية من الزيادات في الرواتب سيتسبب في مزيد من تفقير المرفق العام الذي يعرف موجات هجرة غير مسبوقة لكفاءاته نحو القطاع الخاص أو إلى دول أجنبية.

وأضاف المليكي أن الحكومة لا تملك أي خطة لإصلاح القطاع الحكومي الذي تآكل وفقد قدراته على تقديم الإضافة للاقتصاد، مشيرا إلى أن برنامج تحديث الإدارة الذي نفذته تونس في بداية تسعينات القرن الماضي عبر زيادة أعداد الشباب وتطوير المرفق العام ساهم بشكل كبير في زيادة نسب النمو في تلك الفترة.

واعتبر استثناء أجراء الوظيفة العمومية من الزيادة في الرواتب والحوافز سيزيد من عزوفهم عن العمل ويقتل فيهم روح المبادرة والاجتهاد لغياب حوافز مادية ومعنوية للموظفين منبها من خطورة تهاوي الإدارة التونسية التي تمثل العمود الفقري للاقتصاد.

وتقدر كتلة الأجور في القطاع الحكومي وفق مشروع ميزانية الدولة لعام 2019، بحوالي 16485 مليون دينار (5887 مليون دولار) أي ما يعادل 14.1% من الناتج الإجمالي مقابل 14% محددة في سنة 2018.

وقد سجل حجم الأجور في الوظيفة العمومية تطوراً من 7680 مليون دينار (2742 مليون دولار)، سنة 2011، إلى 13700 مليون دينار سنة 2017، بحسب دراسة أعدها المعهد التونسي للدراسات الاستراتيجية.

وتضاعف عدد العاملين بالوظيفة العمومية حسب هذه الدراسة 16 مرة، منذ الاستقلال إلى سنة 2017، ليرتفع من حوالي 36 ألفاً سنة 1956 إلى أكثر من 690 ألف موظف.