الخروج من حالة الريعية

الخروج من حالة الريعية

14 سبتمبر 2017
احتجاج في تونس (أمين لاندولسي/ الأناضول)
+ الخط -

عُلّمنا أن المجتمعات الريعية لا تدوم، وذلك لأن تكاليفها ترتفع وعوائدها تتراجع، ما يدفع المسؤولين إلى إعادة النظر فيها. وتتصل الفرضيات التي تبنى عليها المجتمعات الريعية اتصالاً مباشراً بالعلاقة بين الحاكم والمحكوم. 

وأول هذه الفرضيات أن المسؤولين يقومون بدور الوصي والأب الراعي لكل أبناء وطنهم، ويكفلون لهم الحد المعقول من مستوى المعيشة. فيكون الحاكم هو "الكساب الوهاب"، أما أفراد الشعب، فهم يرضون بالحكم المطلق، ويطيعون الأمر، ويتقيدون بذلك.

والفرضية الثانية أن الخزينة تُرفَدُ من مصادر محدّدة، تمثل، في الغالب، موارد طبيعية لم يشق أحد أو يتعب في إنتاجها، مثل النفط في دول النفط، أو الفوسفات أو الذهب، أو الإنتاج الزراعي المكثف كالقطن، أو التبغ، أو الفواكة.

وتوضع حصيلة الأموال في الخزينة العامة، وتكون تحت إمرة صاحب الأمر، يوزّع منها نفقات متكرّرة، ويعطي منها هبات لمن يشاء، ويقرّب بها من يشاء، ويقصي من لا يشاء.

والفرضية الثالثة أن الرقابة على المال تكاد تكون غائبة، وإن وجدت فهي غير فعالة. وتستمر هذه العلاقة بين الحاكم والمحكوم على حالها، ما دامت الموارد كافية، وعدد السكان معقولاً، وتبقى فوائض لدى صاحب الأمر تغطي النفقات.

ولكن التاريخ والمؤرخين علمونا دروساً كثيرة، وأعطونا نصائح حول هذا الموضوع. ومن ذلك أن ابن خلدون حذّر، في مقدمته، من تدنّي الإنتاج في المجتمعات الريعية، وأنها في نهاية المطاف مقدمة للانهيار الحضاري. وذلك لأن الريعية مرتبطة في ذهن ابن خلدون بالمجتمعات البدائية.

أما المؤرخ البريطاني، إدوارد جيبون، فقد أوضح هذا الأمر جليا، في كتابه الشهير الموضوع بعد مقدمة ابن خلدون بأكثر من أربعة قرون. يقول في كتابه "تاريخ انهيار وسقوط الامبراطورية الرومانية"، المنشور عام 1793، إن من أهم مؤشرات قرب انهيار الأمم اعتماد عدد كبير من الناس على الحكومة في معاشهم، وهو يربط هذه الظاهرة بتفاوت الثروات والدخل بين الأغنياء والفقراء.

أما الإمام حسن بن الفضل الذي أوصل الإسلام إلى جزر المالديف (أو ديبا محل كما كانت تسمى قديماً)، فقد حذّر سلطان الجزر آنذاك من إهمال العدل بين الناس، ودفع الظلم عنهم، وتوجيهه الاهتمام نحو من حوله من بطانةٍ تدّعي حمايته.

ويقول إن هؤلاء المنتفعين لا ينصرون السلطان من غضب الرعية إن احتاج الرعية، ولم يجد عندها ما تعطيه إياه. ويثير كتاب لوالدي، المرحوم أحمد العناني، نشرته دار نشر كبرى في بريطانيا (لونج مانز) بعنوان "التاريخ المبكر لدول الخليج"، السؤال الكبير "لماذا كان عرب شرق الجزيرة العربية آخر من أسلم، وأول من ارتد، وأحسن من أبلى في القتال.

وأكثر من تشدّد في الدين"؟ وفي رأيه أن الرّدة كانت بسبب دخولهم في الإسلام لا إيماناً في البداية، ولكن لأن محمداً بن عبدالله، النبي الأمين، كان شيخاً كسّاباً وهّاباً، ولما طالبهم أول خليفة، أبو بكر الصديق، بالزكاة ارتدّوا محتجين.

كل هذه الأدبيات، وآلاف غيرها، تؤكد مثلاً أن انهيار الدولة العباسية كان بسبب فساد العلاقة المالية بين الحاكم والمحكوم، سواء في بغداد، أو في أطراف الدولة إبّان العصر العباسي الثاني. وكذلك حصل مع الدولة العثمانية، حين تحولت إلى الجباية، وكرّهت من كانوا تحت سلطانها من الضرائب التي لا يعود منها على دافعيها أي خير.

والوطن العربي يواجه الآن المهمة الصعبة، تحويل الوطن العربي، دولة دولة، أو قطراً قطراً، من حالة الريعية إلى ديمومة مجتمعات الإنتاج والتنافس، القائم على العلم والمعرفة. ولقد شاهدنا بداية هذه المحاولات في دول نامية. ومن أبرزها حديثاً تركيا التي عانت، في العقدين الثامن والتاسع من القرن الماضي، من الإفلاس، وسفك الدماء، وحالة التمرّد.

ولكن بفضل جهود المخلصين فيها، وصدقيتهم مع الناس، تمكّنوا من الانتقال خلال عقدين إلى مجتمع منتج.

ورأينا الحكاية نفسها تتكرّر في ماليزيا. وقد أتيحت لي فرصة اللقاء برئيس وزرائها، مهاتير محمد، عام 1986، حين كانت أسعار النفط والمواد الخام والمنتجات الزراعية تتراجع في العالم.

وقال لي إن العرب أضاعوا علينا جميعاً فرصة إنصاف أنفسنا من الاحتكار والمنافسة الضارة التي فرضتها علينا دول العالم الغنية، حين فرّطنا بفرصة ارتفاع أسعار النفط ومشتقات الطاقة. ولكن مهاتير، على الرغم من تلك الانكفاءة، تمكّن بمساعدة مواطنيه من تحويل ماليزيا إلى مجتمع إنتاج منافس.

وقد حذر اقتصاديون كثيرون دول الخليج من عدم القدرة على الاستمرار في السياسة الريعية، ونبهوها إلى خطر ما يسمى في علم الاقتصاد "المرض الهولندي"، وهو مرض يشير إلى الاقتصاد الهولندي الذي تحول من مجتمعٍ منتج إلى مجتمعٍ شبه ريعي، حين اكتشف الغاز الطبيعي فيه.

وترك الناس الزراعة والإنتاج الصناعي إلى القطاع الغني، ليعملوا فيه، أو ليؤمنوا للعاملين فيه سلع الرفاهية وخدماتها. ولذلك تحولت هولندا من دولةٍ يتوزّع العاملون فيها على مختلف القطاعات إلى دولةٍ شهدت تركزهم في قطاع الطاقة وما يرتبط به.

ولذلك واجهت الدولة صعوباتٍ كثيرة، حين بدأ الغاز بالنضوب، وتحولت تدريجياً إلى الصناعة والزراعة وخدمات الشحن وغيرها بهدف تنويع الاقتصاد، وتعزيز الإنتاج، وتنافسيته، ونجحت في ذلك نجاحاً كبيراً.

هل تستطيع الدول العربية التحول نحو ذلك؟ من الواضح أن الدول التي أدركت ضرورة تعزيز موارد الخزينة من المواطنين، بدلاً من الاعتماد على دخل قطاع واحد، أو قطاعين، في السير بإجراءات التنويع الاقتصادي، لكنها لم تفلح في تغيير الثقافة نحو الإنتاج، فاعتمد كثير منها على فائض العمالة في الدول الأفقر.

ولما واجهت مشكلات كثيرة، بدأت في جمع الضرائب وتقليل الدعم، ورفع تكاليف المعيشة، والسعي إلى التقليل من الاستهلاك المظهري وغير الضروري. ولما بدا أن الناس لم يقبلوا بهذه الإجراءات المؤلمة، بدأت الدول المطبقة لهذه البرامج في الإحساس بالضغط عليها، والتشكيك في شرعيتها، لأن الفرضيات التي قامت عليها بدأت تتغير.

ومن هنا، صار المسؤولون يبحثون عن وسائل لتخفيف الضغط عليهم، بنقل عبء التحول وتكاليفه عن أكتاف مواطنيهم إلى أكتاف العاملين المقيمين لديهم، والسعي إلى استبدالهم. وهذا أسلوب أقل كلفة من الناحية السياسية، ولكنه إجراء مؤقت ولن يكفي. وسوف تضطر هذه الدول إلى وضع عقود اجتماعية جديدة، تعيد بناء العلاقة بين الحاكم والمحكوم. وقد أدركت دول عربية هذا الأمر، مثل الأردن، والمغرب، وتونس، والجزائر، وهي الأقل موارد من غيرها، ولديها قاعدة سكانية محلية.

وقد كتب الملك عبدالله الثاني سبعة أوراق نقاشية، سعياً منه للمساهمة في هذا التحول المجتمعي بالتدريج. ولكن متطلبات التحول تأخذ وقتاً أطول من الوقت المتاح للحكومات، لكي توفر للناس فرص عمل كافية ودخولاً مناسبة، تمكّنهم من مواجهة الأعباء الجديدة. ولذلك يحصل التذمر وتزداد الشكوى. ومن هنا، تصبح إدارة هذه المرحلة الانتقالية من أصعب مراحل التحول المنشود.

إذا تمكن الوطن العربي، بكل أقطاره، من إدارة المرحلة الانتقالية بكفاءة، فهو في طريقه نحو النجاح. أما إن بقي مقسّماً، مهزوزاً، فإن القوى الإقليمية والدولية لن تصبر حتى يستعيد أنفاسه، بل ستستغل فرصة انشغاله بخصوماته الصغيرة، ذات الكلف البشرية الإنسانية والاقتصادية المرتفعة، حتى تبقيه على حاله من الضعف والفرقة. علينا أن نتذكّر "واتقوا فتنةً لا تصيبن الذين ظلموا منكم خاصة".

دلالات

المساهمون