الدنمارك... التحكم بالبطالة عبر إصلاحات مثيرة للجدل

الدنمارك... التحكم بالبطالة عبر إصلاحات مثيرة للجدل

03 مايو 2017
انخفاض معدلات البطالة (Getty)
+ الخط -
تشير معدلات البطالة، الصادرة عن مكاتب التوظيف الحكومية، ومركز "الإحصاء الدنماركي"، إلى أن نسبها تسير نحو الانخفاض في العام 2017. ويربط أخصائيون وساسة من الذين تحدث معهم "العربي الجديد" العلاقة بين هذا الانخفاض وتزايد النمو الاقتصادي ومرونة السوق، إلى جانب السياسات الاقتصادية والاجتماعية التي اشتغلت عليها الحكومة منذ وصولها إلى الحكم قبل عامين.
وتتراوح نسب البطالة اليوم، في مختلف أقاليم (محافظات في السابق) وبلديات الدنمارك، بحسب أرقام شهري مارس/آذار وأبريل/نيسان، بين 2% و4%. وفي بعض قطاعات سوق العمل تصل إلى صفر في المائة. بل يتم في حالات معينة استيراد اليد العاملة كما في قطاعي البناء وهندسة المعلومات، أضف إلى ذلك التمريض.
يقول سورن أندرسن، من "مركز التشغيل" في كوبنهاغن، لـ"العربي الجديد" : "انخفاض نسب البطالة بين الدنماركيين يرتبط بعوامل عدة، وفي مكاتبنا الموزعة على خارطة البلد نلمس أكثر نتائج الإصلاحات التي أقدمت عليها الحكومة الحالية منذ مجيئها. وازداد الأمر مع توسع الائتلاف الحاكم ليشمل التحالف الليبرالي (يمين وسط) وضغطه نحو مزيد من دفع العاطلين عن العمل للخروج نحو الإنتاج... بالتأكيد هناك بضعة آلاف وجدوا أنفسهم مضطرين لقبول ما يعرض عليهم، وخصوصاً من عاشوا لفترات طويلة على المياومات والإعانات الاجتماعية".
أندرسن يتحدث عن إصلاح اجتماعي وسوقي أدخلته حكومة لارس لوكا راسموسن، ويهدف إلى تشجيع العاطلين، من مختلف الفئات العمرية، للتوجه لسوق العمل بدل الركون لتلقي الإعانة الشهرية.
ولكي تنجح خطة الحكومة جرى منذ العام الماضي انتهاج سياسة "الجزرة والعقاب" مع المستنكفين عن العمل، إذ يعيش عدد من الأزواج على الإعانة الشهرية، والتي كانت تصل، مع مساعدة الأطفال (شيك الأطفال)، إلى ما يوازي راتب شهري لشخص يعمل لسنوات.

أدخلت الإصلاحات الجديدة شروطاً قاسية على آلاف العاطلين عن العمل، تقضي باستقطاعات شهرية متدرجة من الإعانة، واستيفاء شرط العمل لمدة 225 ساعة لمواصلة تلقيها. وفي حالة أن أحد الزوجين لم ينخرط في عمل فإن نصف ما تتلقاه العائلة يجري استقطاعه. كما بدأت الحكومة مفاوضات مع أرباب العمل لتقديم محفزات توظيف لليد العاملة غير الماهرة.
هذه السياسة بدأ تطبيقها منذ العام الماضي، ولم تتراجع عنها الحكومة رغم تعالي الانتقادات بوجهها، وخصوصاً بعد ادعاء اليسار بأنها تؤدي إلى حالة إفقار للمهاجرين واللاجئين والعائلات الدنماركية التي تعيش بالأصل أزمات اجتماعية في مناطق سكنية شعبية جداً.
وبالرغم من النجاحات التي حققتها حكومة يمين الوسط خلال العامين المنصرمين، بالدفع بالآلاف نحو سوق العمل، إلا أن انتقادات نقابية وشكوكاً كبيرة، سياسية واقتصادية، رأت أن سياسات الليبراليين على المدى الطويل تضر بفئات كثيرة في المجتمع.
يستشهد هؤلاء بأرقام صادرة عن "مركز الإحصاء" الرسمي، وتفيد بأن مشاريع الحكومة للتطوير البنيوي للسوق الدنماركية، وخصوصاً ما جاء في خطتها القاضية بزيادة العرض في سوق العمل، سوف تعطلها البطالة المقنعة التي يعيشها نحو 53 ألف شخص.
ويذهب بعض خبراء الاقتصاد لتحذير الحكومة من سياسات اقتصادية "ستفاقم الوضع إذا لم تصب اهتمامها على تأهيل حقيقي لهذه المجموعة"، إذ وعلى الرغم من انخفاض نسبة البطالة في البلد، يرى كبير الاقتصاديين في مجلس الأعمال للحركة العمالية (AE)، إريك بيورستيد، أن "المشكلة لا تكمن في عدم وجود أعمال، بل في غياب رفع المهارات، وتأهيل العاطلين عن العمل، للتناسب مع المعروض من وظائف".
خيار الحكومة في رفع سن التقاعد نصف عام كل 5 سنوات (بدلا من 67 عاماً حالياً)، لسد عجز آني ومستقبلي في ظل غياب مؤهلات تحتاجها السوق يجعل الناس يعملون لأوقات أطول. وهذا الأمر يجد أيضاً معارضة كبيرة من حزب الحركة العمالية التقليدي "الاجتماعي الديمقراطي" المعارض، جنباً إلى جنب مع معارضة "حزب الشعب الدنماركي" في أقصى اليمين.
لكن معارضة الاقتصاديين والحركة العمالية أوسع من ذلك. ويقول الخبير الاقتصادي، مارتن ستيفانسن، لـ "العربي الجديد"، إن "ما يقترحه الليبراليون لن يتماشى مع احتياجات السوق الحالية ولا خلال العقد المقبل. فتخفيض الضريبة ورفع سن التقاعد لدفع الناس أكثر نحو سوق العمل، لا يرفعان من مستوى التأهيل لدى فئات عاطلة عن العمل الآن. وبالرغم من أن الشركات تحتاج لليد العاملة تلك إلا أنها غير ماهرة. ويبدو أن ذلك غاب عن بال مخططي الحكومة الاقتصاديين".
وتشهد السوق الدنماركية اليوم وجود 112 ألف عاطل عن العمل، أو نحو 4% في المتوسط، مع انخفاض بين شهر وآخر، وفي ظل هذا الانخفاض فإن مخاوف كثيرة بدأت تتسرب لأرباب العمل.

ولعل أهم تلك المخاوف أن تصبح السوق من دون يد عاملة تلبي احتياجاته، بينما يذهب البعض الآخر للتخفيف من هذه المخاوف بالإشارة إلى أنه هناك يد عاملة كافية بين العاطلين بشكل مقنع.
ويستدل هؤلاء إلى وجود الآلاف ممن هم غير مسجلين على لوائح البطالة الإجمالية، التي تشمل المسجلين ومتلقي الإعاشات اليومية. ففي المسألة المتعلقة بالفئة الأخيرة، من متلقي الإعاشة، ذهبت أيضاً الحكومة لتخفيض فترة السماح لهم حتى يجدوا عملاً، وفي حالة أنهم بقوا من دون عمل يشطبون من اللوائح، منهم الأمهات اللواتي لم يدخلن سوق العمل منذ فترة طويلة ويعشن على رواتب الأزواج.
كبير مستشاري منظمة أرباب العمل الدنماركية، ينس ترولدبورغ، يعيد ويؤكد ما يجمع عليه خبراء سوق العمل في مجال الأولويات "بحسب اعتقادنا، نحن نواجه تحدياً كبيراً يتمثل في غياب المؤهلين وهذا يزيد مشكلات الشركات في إيجاد الناس يمكنهم تغطية العجز. لا يكفي أن توظف الناس لتخفيض البطالة، بل يجب أن يحتل الناس الأعمال المناسبة، وهذا يتطلب كما قلنا تأهيلاً ودراسة ليتجاوب هؤلاء مع مطالب السوق".
خلال طرح الحكومة الليبرالية لحلول مستقبلية لسد العجز في اليد العاملة، وضعت خطة تقتضي زيادة بمقدار 250 ألف فرصة عمل خلال السنوات الثماني المقبلة. ويرى المنتقدون لهذه الخطة أنه "لا تقدم هذه الخطة أي شيء سوى التغطية على الزيادة الطبيعية للسكان في الدنمارك، ويريد أطراف الليبراليين ويمين الوسط إقناع الشعب بأنها تنجز شيئاً لمستقبلهم"، بحسب النقابية، سانا سفينسون.
وتضيف سفينسون لـ "العربي الجديد": "الدنمارك بدأت منذ وقت تتعافى من الأزمة الاقتصادية العالمية، وبدلاً من أن تتحدث الحكومة عن حقيقة البطالة، فهي تتجنب التطرق للبطالة المقنعة حتى لا تصيب أرقامها ونسبها المائوية بانتكاسة".
وعلى الرغم من ذلك تعترف سفينسون بأن واقع البطالة الإجمالي في بلدها "أفضل بالتأكيد من بعض دول الاتحاد الأوروبي، وخصوصاً في شرق أوروبا، حيث بدأنا نلمس انتقال اليد العاملة من هناك إلى بلدنا، والأرقام بنفسها تتحدث. لكن ذلك ليس إنجازا لحكومة تدلل الرأسماليين بإعفاء ضريبي في مجال التنقيب عن النفط مثلاً، مع اقتسام العوائد على حساب الطبقة العاملة والمحتاجين بالفعل لتخفيضات ضريبة مرهقة".