عالم موازٍ في تسريبات "أوراق الجنة"... الثراء الفاحش والسلطة

عالم موازٍ في تسريبات "أوراق الجنة"... الثراء الفاحش والسلطة

06 نوفمبر 2017
التسريبات تطاول ترامب وإدارته وعلاقته بروسيا (Getty)
+ الخط -
تشير التسريبات الأخيرة لأوراق الجنة الضريبية (وثائق بارادايز)، والمقدرة بملايين الوثائق، 13.4 مليون وثيقة، بحسب ما يقول صحافيون من "سوددوتش زايتونغ" الألمانية في ميونخ، إلى أننا مرة أخرى أمام افتضاح الملاذات الضريبية التي لم تكن هذه المرة ناجمة عن صغار المستثمرين وأصحاب رؤوس الأموال

هذه الوثائق المسربة صادرة عن شركة محاماة في برمودا وموفر خدمات تجارية في سنغافورة، بالإضافة إلى وثائق سجلات تجارية لـ19 شركة في عدد من الملاذات الضريبية حول العالم، تكشف حجما ومستوى مختلفا عن المحتوى والمستويات المتورطة. 

من المتورط الأكبر؟

قد تكون المملكة المتحدة الأبرز في تصدر قائمة الاهتمام العالمي بالتسريبات، بفعل انكشاف تورط العائلة المالكة، وتحديدا على مستوى الملكة إليزابيث وما أثاره الكشف من جدل مترافق مع غضب وامتعاض سياسي وشعبي للتورط الملكي، الذي يشير البعض إلى أنه "ليس مخالفا لقوانين الاستثمار" إنما ارتباطه بالملاذات يخفي شيئا مختلفا هذه المرة.

في المقابل، تبدو مروحة التسريبات أوسع مما أشارت إليه التقارير الأولية خلال اليومين الماضيين.

من عمل على الوثائق؟

ملايين الوثائق، اشتغل عليها صحافيون استقصائيون من دول عدة، وسرب أكثرها إلى الصحيفة الألمانية "سوددوتش زايتونغ"، بالتعاون مع الاتحاد الدولي للصحافيين الاستقصائيين ICIJ وشبكة من أكثر من 350 صحافياً من 67 بلدا، وهي تذهب إلى أبعد من بضعة أسماء كما في التسريبات السابقة، كأوراق بنما على سبيل المثال التي أطاحت برؤوس كبيرة.


أبرز الأسماء

لغاية ظهر يوم الإثنين تقدر التسريبات وجود 127 سياسيا وزعيم دولة من 47 بلدا على لائحة زبائن شركات الملاذات الضريبية، من كندا حتى أستراليا مرورا بأوروبا والمنطقة العربية وأفريقيا.

وتورد التسريبات اسم الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى جانب الملكة إليزابيث. واسم ترامب يبدو مهما في سياق "علاقة الأعمال بين روسيا ووزير تجارة ترامب"، بحسب ما تذهب إليه المواقع المشاركة في التحقيق. 

ويبدو أن وزير التجارة الأميركي ويلبر روس يكسب أموالا طائلة من خلال عمليات نقل الغاز المسال لشركة روسية مملوكة جزئيا لأسرة قريبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين.

وما تكشف عنه التسريبات الداخلية لوثائق شركة المحاماة العالمية إبيلبي العملاقة ليس بالأمر العادي بالنسبة لرئيس أميركي يعيش أوضاعا مثقلة بالأصل بتحقيقات وظنون كثيرة عن علاقة موظفيه المقربين بالروس.

ولن تخفف التسريبات من الوطأة بالنسبة لدونالد ترامب، بحسب القناة التلفزيونية الدنماركية المشاركة في التحقيق بهذه التسريبات، فهو تعرض لانتقادات عنيفة في شهر فبراير/ شباط الماضي على خلفية ترشيحه للثري ورجل الأعمال روس لمنصب وزير التجارة.

وروس هو ملياردير في قطاع الأعمال والاستثمار متمرس بالتعامل مع مستثمرين حول العالم للاستثمار في شركات متعثرة لإنقاذها وقلب مؤشراتها، لذا منح لقب "ملك الإفلاس".

ورود اسم ويلبر روس كزبون في وثائق شركة "إبيلبي" لن يكون سهلا على دونالد ترامب، وخصوصا توقيعه لحظة توزيره على وثيقة إعلان التصريح عن أعماله بوجود 80 شركة وشراكة على وشك البيع، بما فيها أسهمه في الشحن البحري للغاز المسال من روسيا.

والمشكلة الحقيقية لإدراة ترامب، في اختلاط السياسة بالاقتصاد، أنها تضم شخصيات تتعامل مع الروس رغم وجود عقوبات اقتصادية مفروضة على موسكو منذ تفجر أزمة شبه جزيرة القرم 2014.

فضيحة من العيار الثقيل

العلاقة هنا ليست مع أي روسي، بل مع زوج ابنة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. أحد الصحافيين الدنماركيين يقول لـ"العربي الجديد": "نحن أمام فضيحة من العيار الثقيل في عالمنا، فهؤلاء (الساسة) يعيشون في عالم مواز لعالمنا، علاقاتهم أعمق في المصالح مما يقولونه عن عقوبات واختلافات وتعارض مصالح الدول، ففي إدارة ترامب من يتعامل مع غينادي تيمنشكو وكأنّ لا عقوبات عليه".

ويشير هذا الصحافي إلى عمق الترابط "في العالم الموازي" بين كيريل شاملوف، زوج ابنة بوتين، وأعضاء في عائلة وموظفي ترامب. ويتضح أنّ وزير التجارة الأميركي مستمر في علاقته التجارية مع الروس "رغم أن وظيفته تفرض عليه تنفيذ العقوبات على الروس... إنها حقا فوضى وعملية خداع كبرى نعيشها في تداخل المصالح".

الوثائق الصادرة عن إبيلبي تغطي الأعمال منذ الخمسينات، أي أن ما يمكن أن تكشفه سيتجاوز الواقع الراهن لمجتمعات الثراء الفاحش لمجتمع الأغنياء الموازي.

رؤوس ستتدحرج

ولأن التسريبات الحالية، أوراق الجنة، ليست كسابقاتها "أوراق بنما" ولا جزر الملاذات الضريبية الأخرى، فإن تدحرج رؤوس كثيرة سنشهده خلال الفترة القادمة، أكثر مما فعلت أوراق بنما، مع المزيد من التحليل والتسريب لمحتويات الوثائق المثيرة هذه المرة لامتعاض وغضب شعبي في عدد من الدول، وليست بريطانيا وحدها هذه المرة التي تعيش مرارة الفجوة بين مستثمرين صغار أشارت إليهم التحقيقات السابقة والعائلة المالكة هذه المرة وبقية الشعب في الناحية المقابلة بتهرب ضريبي أشمل مما اعتُقد في الماضي.

ملاذات إفقار الدول النامية

الملاذات الضريبية ليست مسألة ترتبط بأناس عاديين، أي موظفين وعمال ولا حتى أصحاب مصالح واستثمارات صغيرة، بل نظام خدمة الملاذات الضريبية عالم قائم بحد ذاته على تقديم خدمات لما يسمى "حيتان الاستثمار ورؤوس الأموال" في التهرب من دفع ضرائب في الدول التي تسير فيها مصالحها واستثماراتها.

على سبيل المثال شركات إنتاج عملاقة تفتتح فروعا لها لخطوط إنتاج محلية، كشركات مشروبات غازية أو تأجير سيارات أو إنتاج أحذية رياضية معروفة أو سلسلة مطاعم، ولكنها لا تدفع الضرائب المستحقة من خلال تهرب تقدمه تلك الشركات المختصة بنقل أرباح الشركات والأثرياء من خلال إنجاز أوراق المعاملات بسرية مطلقة.

ويرتبط هذا التصرف، بالتهرب إلى الملاذات الضريبية، بإخفاء الهوية الحقيقية وحجم الأموال بما يؤدي إلى عدم دفع الضرائب الحقيقية.

 دخل الدول من الضرائب يتلاشى

هذه الملاذات تعني أيضا أن دخل الدول من الضرائب يتلاشى، وخصوصا في الدول التي تعتمد على هذا الدخل لاستمرارية دولة الرعاية والرفاهية، بما يثقل كاهل المواطنين العاديين الذين يتحملون هذه المهمة عن الرأسماليين وكبريات الشركات المتهربة، ما يثير الغضب والجدل الاجتماعي والسياسي في تلك المجتمعات، وخصوصا مع ازدياد الشعور بغياب المساواة والعدالة وتآكل الرفاهية.

وإذا كانت المجتمعات المتقدمة تجد بدائل وطرقا أخرى لتمويل مشاريع الرعاية فإن مجتمعات أخرى تجد نفسها أكثر عرضة للدمار بنتيجة الملاذات الضريبية.

فخلال يومي الأحد والإثنين خرجت منظمة أوكسفام، التي تكافح ضد غياب المساواة بين الدول المتقدمة والنامية، للتعبير عن قلقها بشأن تزايد الملاذات الضريبية، وما بدأ يتكشف عن الأوراق الأخيرة.

ترى أوكسفام أن الاستثمارات في أفريقيا، وغيرها، من خلال شركات تتأسس في الملاذات الضريبية تؤدي إلى خسائر لهذه المجتمعات تتجاوز المائة مليار يورو سنويا على المستوى الضريبي فقط. تأتي تلك الخسائر على شكل نقل الأرباح إلى الملاذات، وبفساد محلي، بدل دفع ضرائب تلك الأرباح في المجتمعات المحلية.

ملاذات تزيد الفقراء فقرا

ووفقا لما يقول المتخصص في مجال الضرائب في كلية الأعمال بكوبنهاغن، راسموس كورلين كريستيانسن، فإن "هذه الملاذات تزيد الفقراء فقرا".

ويضيف البروفسور في نفس الكلية بروك هارنينغتون بأن "مجموعة صغيرة من الناس ليسوا على قدم المساواة القانونية مع الآخرين من حيث المساءلة ولا يخضعون لنفس المعاملة يتسببون بكل هذا الذي يجري من عدم مساواة عالمية". ويرى هارنينغتون أن هؤلاء "يتمتعون بكل الفوائد الاجتماعية دون أن يتأثروا بأية قيود كالآخرين".

خدمات لنخب وزعماء ونجوم

ولا تتوقف خدمات الشركات عند حدود التهرب الضريبي لدى النخب الرأسمالية والثرية جدا في المجتمعات، فقد كشفت بعض التسريبات الأولية أن إبيلبي قدمت خدمات أيضا للنخب الروسية ونجوم رياضية وزعماء دول في شراء طائرات خاصة ويخوت وسلع كمالية باهظة جدا. بل إن التسريبات التي جرى تحليل بعضها مبدئيا تكشف الالتفاف على القوانين بتقديم طائرات تجسس لدول معينة في الخليج (كدولة الإمارات) ومساعدة صدام حسين في مشروع التسلح من خلال شركات هندسية كندية.

المساهمون