عن الاقتصاد اللبناني

عن الاقتصاد اللبناني

29 نوفمبر 2017
الاقتصاد اللبناني يعتمد على قطاع الخدمات(Getty)
+ الخط -
كتب زميلي في الدراسة في جامعة فاندريلت في الولايات المتحدة، في العام 1970، رسالة ماجستير عن الاقتصاد اللبناني، محذراً من الهشاشة التي قد يتعرّض لها الاقتصاد، لاعتماده المفرط على الخدمات. وقال إن التقلب في الدخل المتأتي للدولة من الاعتماد على تجارة الخدمات يجعلها في حالة عدم استقرار، ومضطرة إلى اتخاذ تدابير احترازية مكلفة.

ومع أن الدكتور صالح منير النصولي حذر، في رسالته، من الانفجار الأمني الذي قد يحصل، إذا تراجعت مصادر دخل النشاطات الخدمية، إلا أنه لم يكن ليتوقع ما جرى في منتصف السبعينات من حرب أهلية طائفية داخل لبنان، وما أدت إليه من دمار وتفسّخ في البنى التحتية، والمرافق العامة، وتهجير للناس، وقتل للمدنيين والأبرياء.

ومع هذا، فإن تلك الحرب التي امتدت حتى عام 1989، حين دخلت القوات السورية وهرب الجنرال ميشال عون إلى الخارج، وبقي الوضع داخل لبنان بين شد وجذب، حتى استلم المرحوم رفيق الحريري رئاسة الوزراء، وبدأ في إعادة بناء لبنان حتى اغتياله عام 2005.

ومع ذلك، كان على الحريري أن يتعامل مع كل الجهات المتخاصمة في لبنان، مثل حزب الله، وحزب الكتائب أو ما تبقى منه، والطائفة الدرزية برئاسة وليد جنبلاط، وغيرهم. ومما عقّد الأمور انقسام الطوائف على بعضها، فالموارنة أصبحوا فرقاً، وكذلك الدروز، والسنة، والشيعة. ولكن الأمور انتهت إلى تشكيل تآلفين كبيرين، سميا بتواريخ مختلفة في شهر آذار. وكان أحدهما هو تيار المستقبل.

وعند اغتيال الحريري، وخروج الجيش السوري من لبنان، استعاد البلد بعضاً من توازنه. وعادت الخدمات تدريجيا إلى لبنان، وبدأ السياح والاستثمار في العودة. وبدأ قطاع الإنشاءات والمصارف يستعيد ألقه، ووثق التجار والمستثمرون اللبنانيون في الاقتراب بالمناخ السائد، واستثمروا في لبنان. ولأن أسعار النفط ومعدلات الدخل في دول الخليج أوجدت وفوراتٍ عالية، شهد الاستثمار الخليجي في لبنان قفزة عالية.

وكان واضحاً إبان كل هذه الفترات أن عنصر التقلب في الخطوط الاقتصادية اللبنانية لم يتغير. فما لبث لبنان، بعد انفجار الأزمة العالمية عام 2008، أن بدأ يحس بوطأة التباطؤ الاقتصادي، ومما زاد الطين بلة حرب 2006 بين حزب الله وإسرائيل، والتي استمرت ثلاثة وثلاثين يوماً، وأدت إلى تدمير جسور وطرق ومبان كثيرة داخل بيروت العاصمة تحديداً، وفي كثير من وسط لبنان وجنوبه عموماً.

ولكن الأمور بدأت تشهد تحسناً مع عودة أسعار النفط إلى الارتفاع، إذ ساهم ارتباط الاقتصاد اللبناني بالاقتصاد الخليجي، وخصوصا السعودي والإماراتي، في تحسين الأوضاع. واستمر الأمر كذلك حتى حصول الربيع العربي، وبشكل أساسي بداية الحرب الأهلية في سورية عام 2011. وقد ترك لبنان، منذ ذلك الوقت، فريسة لتقلب ظروف المنطقة، وزيادة تدفقات اللاجئين إليه، وتراجع الوفورات في الاقتصادات الخليجية.

وباستعراض هذه الأحداث كلها، وبتأملٍ في الأرقام الاقتصادية اللبنانية المتاحة، لم يحقق لبنان في الأعوام 2014-2016 سوى 1.5% معدل نمو سنوي، محسوباً بدولارات 2016، علماً أن معدل النمو شهد تراجعاً في الأعوام الأخيرة، وبلغ 1% فقط حسب تقديرات عام 2016.

أما معدل العجز في الموازنة العامة فيبلغ أكثر من 8.5% من الناتج المحلي الإجمالي المقدّر بأكثر من 80 مليار دولار عام 2016. أما نسبة الدين العام إلى الناتج المحلي فقد تجاوز 165% حسب أرقام 2016، علماً أن دولة كالأردن، والتي تعاني مثل لبنان، فإن حجم الدين العام أقل من نصف الدين العام اللبناني، وتبلغ نسبة 95% من الناتج المحلي الأردني.

أما نسبة البطالة فليست معروفة، علماً أن حجم القوى العاملة اللبنانية يبلغ 1.7 مليون، بالإضافة إلى مليون عامل غير لبناني. ولا تزال الزراعة في لبنان تشكل أقل من 6% من الناتج المحلي الإجمالي، والصناعة في حدود 13%، أما الباقي فيقدّر بـِ 80% وهو خدمات. ولا يزال لبنان يعاني من نقصٍ كبير في الكهرباء.

ولعل أهم رصيد لدى لبنان هو أفراد شعبه المهرة والتجار البارعون والمهنيون المتميزون والمتعلمون المتفوقون. هذا إضافة إلى ما متّع الله به لبنان من مناخ متميز، ومناظر طبيعية خلابة، وسماحة في التعامل مع الآخرين، ودلائل لا تنتهي على الذوق الرفيع في الموسيقى والشعر والأدب والرسم والتصميم، وغيرها من ملكات عالية.

وتذكّر أن الخلل الذي أحدثته الحرب الأهلية في لبنان في منتصف سبعينات القرن الماضي قد أفاد دولاً ومدناً كثيرة، مثل دبي والمنامة، وقبرص وبخاصة مدينة ليماسول، وعمّان، وحتى باريس وجنيف. كان إرث لبنان الخدمي كبيرا توزع على دول قريبة وبعيدة. وللمرء أن يتخيل ماذا سيكون وضع لبنان اليوم، لولا الأحداث الدامية التي بدأت عام 1975 وما تزال تصطلي وتستعر.

أثبت الشعب اللبناني قدرة فائقة على البقاء والتكيف والمرونة مع الظروف الصعبة التي مرت به، ففي أثناء الحرب، قيّض لي أن ازور لبنان لحضور مؤتمرات اتحاد المصارف العربية، ومؤتمرات أخرى. وكانت الكهرباء من الساعة الثامنة وحتى السادسة مساء تزوّد من المولدات المركزية.

ومن السادسة إلى الثامنة من المولدات داخل البنايات العالية، والتي كانت تديرها وتشغلها إدارة المبنى. ومن بعد ذلك، كان في كل شقة مولّد صغير ينيرها حتى صباح اليوم التالي. أما الباعة والمتجولون فقد استمروا في البيع على الطرقات المعتمة، مستخدمين مولدات صغيرة، لإنارة عرباتهم التي يبيعون عليها سلعهم وأطعمتهم.

يستحق هذا الشعب الحياة. ولو قيض له أن ينعم بالهدوء والسلام، فسوف تتحول الطمأنينة فيه إلى مصدر ثراء وتنوع مفيد. وإذا ترك أبناؤه لإبداعاتهم، فسوف يملأون الفضاء العربي المضطرب بالألحان والموسيقى والفنون الجميلة الراقية. وإذا عاد إليها الهدوء، نعمنا بالسياحة في ربوع لبنان الجميلة، وتمتعنا بطعامها الرائع.

نأمل بعد هذا الفصل العارض الذي كاد يعصف بأمن لبنان أن يكون قد طوي، بعد عودة الرئيس سعد الحريري عن استقالته، وقرب الوصول إلى حل سلمي في سورية، وأن تبدأ الأمور في المشرق العربي بالانفراج، وأن تتمكّن دوله من إعادة الروح إلى اقتصاداتها، حتى يتمكن أهلها من تنفس الصعداء، والبدء في ترميم ما تهدّم من أجيال وأبنية ونظم خدمية ومعرفية واجتماعية. وفي هذا كله عودة إلى الأمن والأمان في كل ربوع الوطن العربي.


المساهمون