تجسير الهوة بين الفكر والسياسة

تجسير الهوة بين الفكر والسياسة

26 أكتوبر 2017
منتديات ومحاولات لدفع التنمية المشتركة (Getty)
+ الخط -
أنشئ منتدى الفكر العربي عام 1980، بمبادرة من مفكرين وسياسيين عرب رأوا في شخص الأمير الحسن بن طلال الرجل المناسب لإنفاذ فكرة المنتدى. وكان من بين هؤلاء أشخاص غادرنا بعضهم إلى الرفيق الأعلى، وحفظ الله على الباقين صحتهم، ومنهم أحمد زكي اليماني، وعلي الكواري، ويوسف الصايغ، وعبد العزيز حجازي، ومحمد سعيد النابلسي، وخليل السالم، وعلي عتيقة، وعلي فخرو، والعبد الفقير كاتب هذه السطور. 

وكان الهدف من إنشاء المنتدى تجسير الفجوة بين المفكرين وصناع القرار، عن طريق إعداد الآراء والمقترحات التي تستفيد منها الأمة، ويمكن إيصالها بفاعليةٍ إلى صناع القرار في الوطن العربي. وقد اجتمع الأعضاء المؤسسون في العقبة برئاسة الأمير الحسن، واتفقوا على صيغة النظام الأساسي والأهداف الراقية لذلك المنتدى.

وقد حدث هذا كله مباشرة بعد مؤتمر القمة العربية الحادية عشرة، والتي عقدت لأول مرة في عمّان. وقد سميت تلك القمة الاقتصادية، حيث أقرت استراتيجية العمل العربي الاقتصادي المشترك، ووثيقة عقد التنمية العربية، وكلاهما وضعتهما نخبة من عشرين باحثاً اقتصادياً.

وعلى إثرها وضع يوسف الصايغ كتابه الشهير "محدّدات التنمية الاقتصادية في الوطن العربي". وقد تبنت القمة العربية الوثيقة الاستراتيجية ووثيقة عقد التنمية، ما أعطى المفكرين ثقةً بأن صدور السياسيين سوف تتسع لهم.

وحرص منتدى الفكر العربي، منذ نشأته، على أن يكون مستقلاً، ولذلك لم يتلق أي مصادر دعم إلا من أعضائه.

وقد انضم إليه، خلال السنوات الأولى من تأسيسه، عدد كبير من شتى أنحاء الوطن العربي، خصوصا من دول الخليج وشمال أفريقيا. وقد تسابق رؤساء حكومات سابقون لعضويته مثل سليم الحص من لبنان، وعدنان بدران وعبدالسلام المجالي من الأردن، وعبد العزيز حجازي من مصر، ومحسن العيني وعبد الكريم الإرياني من اليمن.

بدأ المنتدى بأمين عام مؤقت، هو خليل السالم من الأردن، والذي وضع المنتدى على الطريق وأسس لنظمه وتشكيلاته.

واختير بعدها أمين عام من بلد غير بلد المقر وغير بلد رئيس المنتدى، أمين عام من مصر، وهو سعد الدين إبراهيم، أستاذ العلوم السياسية في الجامعة الأميركية في القاهرة، وكان نشيطاً فعالاً، وقدم دراسات مهمة، إحداها عن المجتمع المدني، وشكل فريقاً متكاملاً لدراسة التعليم العربي في القرن الحادي والعشرين، مولتها سعاد الصباح من الكويت.

وقد واجه منتدى الفكر العربي تحديه الأول، عندما أبدى رأياً بشأن مجلس التعاون لدول الخليج العربية، يتساءل فيه إذا كان قيام المجلس يصب في صالح العمل العربي المشترك، أم أنه كان نادياً للأغنياء الراغبين في التعاون داخل إطارهم، ما يهدد جامعة الدول العربية ووجودها.

وقد استجاب آنذاك لهذا الأمر الأمين العام لمجلس التعاون، عبدالله بشاره، وكان حينها عضواً في المنتدى، ووضع دراسة تحت إشراف مجلس التعاون، يؤكد فيها أن المجلس يسهم بصفته تجمعاً إقليمياً في بناء الهوية العربية الجامعة، على الرغم من اعترافه بخصوصية كل منطقة في الوطن العربي. وقد عقد مؤتمر لتلك الغاية في الرياض عام 1986.

وقد أنشئ في ذلك العام مجلس التعاون العربي الذي ضم اليمن والعراق والأردن ومصر، لكنه لم يلبث أن فقد أسباب استمراريته بعد حرب الخليج عام 1991 الذي كان عام التحدي الأساسي للمنتدى.

فقد عاتب كثيرون من أعضاء المنتدى، الكويتيون خصوصا وآخرون من قطر والسعودية والبحرين، على رئيس المنتدى أنه لم يأخذ موقفاً مندّداً من الاحتلال العراقي للكويت، وانسحب الأعضاء من المنتدى، وبعضهم جمد عضويته فيه.

وبأحداث عام 1991، تحول منتدى الفكر العربي الذي كان يفترض فيه الحيادية، والباب المفتوح للنقاش بين الأعضاء، بغض النظر عن مواقفهم السياسية، إلى منتدى يسعى بعضهم إلى التأثير على توجهاته. وهذا أمر مقبول ولكن ضمن الحوار.

وقد أضعفت هذه التطورات من المنتدى الذي لم يكن حزباً سياسياً، ولا وسيلة لتغليب رأي سياسي على آخر، ولكنه كان من المفروض أن يكون منبراً لنقل آراء أعضائه إلى السياسيين وصناع القرار في الوطن العربي.

وقد ناضل المنتدى حتى يستمر، وأصر رئيسه ألا يفقد المنتدى دوره. وفتح الباب على مصراعيه للقاءات فكرية مستمرة مع الدول، أو مجموعات الدول التي كان لمواقفها تأثير على الوطن العربي إيجاباً أو سلباً.

وقد عقدت عشرات الحوارات مع الصين، واليابان، وتركيا، والهند، وأميركا اللاتينية، وأوروبا، وأفريقيا، وإيران، وغيرها. وبلغت حصيلة هذه الندوات عشرات الكتب والمقالات والمحاضرات التي أصدرها المنتدى جميعاً عبر الطباعة الورقية، أو من خلال الشبكة العنقودية.

ويعقد المنتدى حالياً ندوات كثيرة مع كبار المفكرين في الوطن العربي، لكنه، وهو الذي زود الوطن العربي بأفكار كثيرة، بحاجة إلى أن يعاد له نشاطه، حتى يصبح وسيلة فعالة في تجسير الفجوات المتباعدة في الوطن العربي.

وقد أصدر المنتدى، في الأعوام الأخيرة، "الميثاق الاجتماعي العربي" و"الميثاق الاقتصادي العربي"، وعقدت ندوات مفصلة لشرح الوثيقتين، واللتين تعترفان بضرورة إعادة هيكلة المجتمعات والاقتصادات العربية، إذا كان لها أن تدوم وتستمر، خصوصا بعد أحداث العنف والحرب والدمار التي شهدتها بعض أقطار الوطن الأساسية.

كل أقطار الوطن العربي بحاجة إلى تنويع اقتصاداتها، وإلى عكس حالة الريعية التي تجتاحها، وإلى بناء مفهوم الدولة الحديثة المدنية، وإلى تعزيز الثقة بين الحاكم والمحكوم، وإلى مواجهة مشكلات الشباب والفقر والبطالة واحتمالات انتشار الفوضى والعنف وغياب سيادة القانون، وحتى التشظي والانقسام.

نحن بحاجة إلى مراكز قوية تدرس هذه الأفكار بعمق شديد، وبفكر عربي مستقل، لتضع حلولاً تحول دون التهديد المستمر لأمن الوطن الكبير كله، وأمن كل دولة فيه، وإلى الاستفادة من الموارد الإنسانية والطبيعية والمالية المتاحة، وإلى تعزيز العلاقة بين الأجيال التي تزداد هوة المعرفة الثقافة والتكنولوجيا فيما بينها.

ويتطلب هذا كله إعادة لإحياء دور منتدى الفكر العربي، لتجسيد الدور الذي أسس المنتدى من أجله، لمّا كان العرب، في مطلع عقد الثمانينيات من القرن الماضي، أكثر تفاؤلاً واستبشاراً بغد أفضل.

وجود مؤسسة كالمنتدى، لا تحول دون إنشاء منتديات فكرية لكل دولة، ولكل مجموعة، أو لكل حزب. وهنالك مؤسسات تشابه في توجهها منتدى الفكر العربي، وقدمت الكثير في مجالها، مثل مركز دراسات الوحدة العربية في بيروت، وهو يتهاوى الآن، والمركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الناشط والمتحرك وبقوة، وغيرهما من المؤسسات التي أثبتت وجودها.