حرائق كبرى من شرارات صغرى

حرائق كبرى من شرارات صغرى

11 أكتوبر 2017
ريتشارد ثالرالحاصل على جائزة نوبل للاقتصاد
+ الخط -
سوف آخذ القراء اليوم في رحلةٍ، أعتقد أنها ممتعة مع كل من ريتشارد ثالر، الفائز هذا العام بجائزة نوبل في الاقتصاد، ومع شخص آخر متخصص في علم الطقس والتنبؤات الجوية، واسمه إدوارد لورينز. ونتساءل معاً ما العلاقة بين الاثنين؟

عندما وضع العلماء الكلاسيك نظريتهم عن النظام الرأسمالي، وقدرته الذاتية على استعادة توازنه، فقد افترضوا أن السوق مفتوح للداخلين إليه، والخارجين منه، وأن البائعين والمشترين عاقلون في سلوكهم، وأنهم لا يأخذون قراراتهم الاقتصادية إلا بعلم ودراية.

ولكن نظرية اللعبة تبين أن التساوي في المعرفة بين المنتج والمستهلك ليس صحيحاً. وقد استدل بعض الاقتصاديين الذين فازوا بجائزة نوبل في هذا المجال بمثال شراء سيارة مستخدمة، أطلقوا عليها كنية "الليمونة"، لأنها بوضعها البرّاق تخدع المشتري الذي يكتشف، بعد فترة قصيرة، أنه قد تكبد خسائر، لأن السيارة التي اشتراها لا تتمتع بالمواصفات التي أقنعه بها البائع سريع اللسان.

وها هو ثالر يظهر لنا أن فرضية سلوك الفرد العاقل الحاسب للكلف والمصمم على أخذ كل ماله مقابل ما دفعه ثمناً للسلعة أو الخدمة التي اشتراها ليست صحيحة كذلك.

وقد أجرى ثالر، الفائز بجائزة نوبل هذا العام، دراسات مكثفة، ربط فيها بين سلوك الأفراد الاقتصادي وعلم النفس، وساهم بذلك في تطوير فرع جديد في علم الاقتصاد اسمه "الاقتصاد السلوكي".

وقد اهتم بالجانب المالي لسلوك الأفراد، فبعضهم يقع ضحية لطمع الربح السريع. وانظر إلى النصّاب المدان مادوف، والذي تبين، بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، أنه قد أقنع كثيرين من العقلاء والمبدعين في الولايات المتحدة بأن يستثمروا لديه حتى تجمع له حوالي 160 مليار دولار، فكيف نفسر سلوك هؤلاء المدرجين على القائمة الاولى في تخصصاتهم إلا بالقول إنه سلوك غير رشيد.

وما قولنا في صناعة الترويج والإعلان، وكيف بيعت لنا سلع كثيرة على أساس أنها براقة، وزاكية الطعم، ومفيدة، لنكتشف بعدما جنى أصحابها المليارات المكدّسة أنها سلع ضارة، وأن الإعلانات عنها خادعة.


هذا الانحراف عن القرار السليم الذي يبدو أن أفرادا كثيرين يسلكونه ساهم في إيجاد صناعات وسلاسل تجارية وخدمية في مجالات كثيرة، كالطب، والدواء، والاستثمار الورقي، والطعام، والماركات العالمية، وقطاعات الإسكان، والتأمين، وحتى الصيرفة، والمضاربة.

ولو كان الشارون على مستوى الدرجة نفسه من المعرفة الذي يقال إن المشترين يتمتعون بها أمام البائعين، لما احتجنا إلى كل تلك القوانين لحماية المستهلك، ومنع الغش، والسيطرة على الاحتكار.

إن انحرافاً بسيطاً في سلوك المستهلك قد أدى إلى كل تلك الآثار الضخمة على الاقتصاد العالمي، وإيجاد صناعات ونشاطات كبرى، ما كانت لتوجد لولا هذه الظاهرة.

الأشياء الصغيرة التي تخلق مؤثرات كبيرة وآثاراً واسعة جداً ما كان بالإمكان التنبؤ بها هي ظاهرة يطلق عليها اسم "أثر الفراشة"، أي أن فراشة ترفرف بجناحيها بقوة في الصين قد تسبب خلخلة في نظام الرياح، بحيث تؤدي إلى إعصار في خليج المكسيك.

لقد أجرى عالم الطقس، إدوارد لورينز، أبحاثاً كثيرة على التقلبات الجوية الكبيرة، ليعرف أسبابها. وقد استخدم لذلك نموذجاً يفترض المنطقية الكبيرة ليعرف أسبابها.

وفي أبحاثه، يفترض لورينز المنطقية في تراكم التقلب بين مرحلةٍ وأخرى، فوجد أن هذه النظرية التي بنيت على أساس التسلسل في تطورات الطقس لا تفسر شدة بعض الأعاصير.

ولذلك، جدّ في البحث عن أسباب ومسببات أخرى. فاكتشف أن تذبذباً بسيطاً في الطقس في منطقة ما من العالم قد يحصل في وقت يكون نظام الريح السائد قد وصل إلى نقطة تقارب الانفجار، فتأتي ذبذبة جناح الفراشة لتجعل نظام الريح عاصفاً مدمراً في مكان بعيد جدا عن مكان الفراشة. وقد أطلق لورتز اسم "أثر الفراشة" على هذه الظاهرة.

من الأمثلة الحية على هذه الظاهرة ما جرى في الحروب العالمية، فمقتل دوق النمسا وزوجته في سيراييفو عام 1914 أدى إلى اشعال الحرب العالمية الاولى.

وانتحار الشاب محمد بوعزيزي عام 2010 في تونس أشعل ما سمي الربيع العربي. وبالطبع، لم يكن ذلك الحدث هو المسبب الوحيد، لكنه كان الشراره التي حصلت في لحظة من الزمن أحدثت فيها أثراً كبيراً إلى حدود غير متصورة.

إذن، نحن أمام نظريتين: الأولى للفائز هذا العام بجائزة نوبل في الاقتصاد، والتي تقول إن الانحراف السلوكي للفرد في قراره الاقتصادي يولد آثاراً كبيرة على الاقتصاد العالمي برمته. وتتحدث الثانية عن "أثر الفراشة"، حيث تهز جناحيها الضعيفين في لحظة مواتيةٍ من الزمن، فتسبب الأعاصير في مكان آخر في العالم.

علينا أن نتنبه في سلوكنا. فكم من القضايا أحيلت إلى المحاكم بخسائر كبيرة جداً، لأن موظفاً أخطأ، أو اجتهد خطأ في أمر صغير، وكم من كلمةٍ قيلت في لحظة غفلة من شخصٍ لا شأن له أحدثت فتنة كبيرة.

ولذلك، فإننا ندعو السياسيين والاقتصاديين إلى التفكر والتدبر فيما يقولون، أو فيما يفعلون. وعليهم أن يعلموا أن كلمة أو فعلا منهم، مهما بدا تفصيلياً، قد يفتح الباب على مصراعيه لنزاعاتٍ وخلافات مدمرة.

وعلينا أن نعلم الناس أسلوب اتخاذ القرار الاقتصادي السليم فيما ينفقون عليه من استهلاك واستثمار، وفيما يختارونه من سلع وخدمات، وفيما يعلقون الآمال عليه من ربح براق خادع.
ليس كل أسباب الموجات العاتية ضخمة كبرى، بل هنالك أسباب تتحول إلى مصائد ومصائب في هذه الحياة، وهي في أصلها صغيرة، لا يرمش أحد لمرآها.

المساهمون