قل نهب أموال ولا تقل رفع أسعار

قل نهب أموال ولا تقل رفع أسعار

10 أكتوبر 2017
متوسط الشحن الشهري لـ40%من مشتركي المحمول لا يتجاوز 10جنيهات(Getty)
+ الخط -
ضمن حزمة قرارات اقتصادية تستهدف زيادة حصيلة الحكومة المصرية ماليًا، تم رفع أسعار تكلفة الاتصالات بنسبة تجاوزت 36%، الأمر الذي مثل صورة لتحالف مصالح بين شركات المحمول والدولة، وقسمت نسبة الزيادة لتحصل الدولة على ما يقارب 22% من قيمة ما يدفعه المواطنون لكروت شحن المحمول، بينما تحصل الشركات على النسبة المتبقية. ويعد قرار رفع أسعار خدمة الاتصالات نموذجاً للسياسات الاقتصادية المصرية بما تحمله من توجهات وانحيازات.

في البداية طالبت شركات المحمول زيادة أسعار خدماتها، وبررت طلبها بزيادة تكلفة التشغيل نتاج تعويم الجنية، وارتفاع أسعار الطاقة (السولار- الكهرباء ) مما يعرضها للخسائر، إلا أن هذه المبررات وإن كانت صحيحة في بعض جوانبها إلا أنها تمثل تبريراً خادعاً، فتحرير سعر الصرف تم، منذ شهر نوفمبر/تشرين الثاني 2016، بينما أوضحت التقارير المالية للشركات الثلاث أنها حققت أرباحاً متفاوتة.

أما في ما يتعلق بزيادة أسعار الطاقة فإن استخدامات السولار تقتصر على تشغيل محطات الإرسال في المناطق النائية، والتي تتسم أغلبها بضعف الخدمة، وتتجلى تلك المشكلة بشكل أوضح في محافظات الحدود والصعيد، مما يعني أن مطالبات شركات المحمول برفع الأسعار نتاج زيادة تكلفة التشغيل ليست دقيقة.

وإذ افترضنا أن هناك نسبة ارتفاع في تكلفة التشغيل فهل تتناسب تلك النسبة مع الزيادة الأخيرة، الأمر الذي يضعنا أمام استنتاج أن شركات المحمول تستهدف بشكل أساسي زيادة معدلات الأرباح، خاصة بعد سيطرتها على السوق لدرجة التشبع، حيث تجاوز عدد المشتركين 90 مليون مشترك، بالإضافة إلى أن 97% من الأسر يعتمدون على الهاتف المحمول كوسيلة تواصل أساسية حسب بيانات وزارة الاتصالات.

أما في ما يخص باقي عناصر التشغيل التى لم تذكرها الشركات والمرتبطة ببنود الصيانة وأجور العاملين فلم يطرأ عليها تغير يذكر، فما زالت مستويات التشغيل متواضعة قياساً بنسبة المشتركين وحجم السوق، وتتراوح أعداد العمالة بين ( 3- 6) آلاف عامل في كل شركة، وبعضهم يعملون بشكل مؤقت دون ضمانات اجتماعية، وتتسم أجورهم بالضعف حتى بين الكوادر الفنية ومهندسي تشغيل الخدمة والصيانة، ناهيك عن أجور قطاعات مساعدة كخدمة العملاء.

أما في ما يخص بند الصيانة فإن الشركات الثلاث تتجاهل في أغلب الوقت الصيانة الداخلية، وتركز على الصيانة الخارجية توفيراً للنفقات، وبالتالي فإن الأسباب التي قدمتها الشركات لرفع الأسعار ليست دقيقة وأن نسبة الزيادة مرتفعة للغاية، ولا يمكن بالحسابات الاقتصادية، أن يتم ربطها بارتفاع تكلفة التشغيل، وينطبق هذا النموذج مع حالات عديدة لرفع الأسعار تعد غير مبررة بما تمثل نوعاً من أنواع النهب المنظم الذي تشارك فيها الدولة القطاع الخاص على حد سواء.

كما كشفت مفاوضات الحكومة مع شركات المحمول من أن هناك اتفاقًا مسبقاً بين الشركات الثلاث مما يشير إلى عملية احتكارية واضحة المعالم، فالشركات المسيطرة على السوق لا تتنافس في ما بينها لكنها تتفق على الأسعار وتفاوض الحكومة، وهذا يتنافى مع فكرة المنافسة الحرة وآليات السوق التي تفترض نظرياً تقليل أسعار الخدمات في ظل التنافس.

وهذا المشهد يدل على أن الممارسات الاحتكارية تتم تحت عين الحكومة بل ترعاها مما يضر بمصلحة المستهلكين، ويكشف في جانب آخر، أن الحكومة وشركات المحمول في حالة توافق، وبينهما مصالح مشتركة، وهنا تسقط مقولات السوق الحرة والتنافسية والشفافية.

من جهة أخرى، وجدت الحكومة في مطالبات الشركات برفع الأسعار فرصة جديدة لفرض ضريبة جديدة سمتها ضريبة الجدول بنسبة 8% تضاف إلى ضريبة القيمة المضافة البالغ نسبتها 14% لتصبح الضريبة على خدمات الاتصال 22% ستجنيها الحكومة من كل مستهلك، ومن المقدر أن تصل حصيلة هذه الضريبة إلى 8 مليارات جنيه ستضاف إلى مساهمة قطاع الاتصالات في الخزانة العامة للدولة (12 مليار جنيه) حسب بيانات وزارة الاتصالات، وتشير تجربة تطبيق ضريبة الجدول على خدمات الاتصال إلى أن الحكومة قد تكرر تطبيقها على سلع وخدمات أخرى مستقبلاً، كالدخان وغيرها من السلع التي ربما تدخل "الجدول".

ويمكن أن نشير هنا إلى إن الحكومة في إطار أزمتها المالية تريد تحصيل أكبر قدر ممكن من الأموال عن طريق الضرائب غير المباشرة التي تتخفى خلف "ارتفاع الأسعار" وتستخدم الحكومة هنا كل أسلحتها في ذلك، مرة من خلال عبارات مكررة لدغدغة مشاعر الوطنية والانتماء ( كخطتنا للإصلاح الاقتصادي تستهدف صالح الوطن)، أو من خلال عبارات الإدانة مثل أن شعبنا مستهلك ومسرف وعليه أن يتقشف ليساهم في بناء بلده، وعليه أن يتخلى عن الإسراف وهذا لن يأتي إلا برفع الأسعار.

هكذا ترى الحكومة أن أغلب فئات الشعب مسرفة وليست مفقرة، وهذا المنطق عبرت عنه رموز السلطة أكثر من مرة منها التصريح الشهير للرئيس، عبد الفتاح السيسي، حول خدمة الاتصالات في 2013 حين قال "لو حكّموني هخلي اللي بيتصل يدفع واللي بيسمعه يدفع، طالما إنتوا عندكوا استعداد تدفعوا للتليفونات كده طب ما ناخد منكم عشان نبني بلدنا بقى".

وهذا المنطق تترجمه المجموعة الاقتصادية الحاكمة بشكل عملي من خلال سلسلة قرارات وإجراءات تقع في إطار النهب المنظم والمقنن، منها رفع الأسعار المتكرر وزيادة رسوم الخدمات التعليمية والصحية وخدمات النقل.

كل هذا يحمل المواطنين أعباء وضغوطاً اقتصادية ضخمة لا تتحمل قسوتها الفئات الأكثر فقراً وعوزاً والتي تتسم أجورها بالثبات في ظل ارتفاع تكاليف المعيشة.

وإذ كانت السلطة تستدعي اتهامات الإدانة بالسفه لقطاعات من الشعب فإن أرقامها الرسمية يمكن أن تشكل رداً على تلك المقولات، فخدمات الاتصال والمحمول تحديداً لم تعد نمطاً ترفيهياً يدل على الغنى أو السلوك الاستهلاكي، بقدر ما يمثل ضرورة في بعض الأنشطة التجارية، وأنه في ظل صعوبة المواصلات وارتفاع أسعارها فإن التواصل عبر الهاتف أصبح يوفر الوقت والجهد في كثير من الأحيان، وليست كما يظن بعضهم سفهاً استهلاكياً.

وحسب بيانات حكومية فإن "40% من مشتركي المحمول متوسط الشحن الشهري لهم لا يتجاوز الـ 10 جنيهات "، وهذا يدل على تواضع أحوال كثير من متلقي الخدمة، أما الجانب الآخر من النهب فيتعلق بأن أغلب مكاسب شركات المحمول تذهب خارج مصر، حيث تستحوذ شركات المحمول الأجنبية (المشغل) على الأرباح، بينما تتولى الشركات الأجنبية مثل هاواوي وإريكسون خدمات إقامة الشبكات وتقوم شركات المقاولات الفرعية (أغلبها مصرية) بصيانة الشبكات.

ومن خلال العرض السابق لتقسيم العمل يتضح أن أغلب الأرباح لا يتم إعادة استثمارها وتستحوذ عليها الشركات الدولية، مما يشكل صورة عن اتجاه السياسات الحكومية التي تتسم بنهب المواطن تحت مسميات رفع الأسعار والضرائب وتواطؤ الحكومة مع الشركات الدولية لتحقيق المزيد من الأرباح، لذا ما يتم ليس مجرد رفع أسعار مرتبط بتكلفة الخدمة بينما هو صورة من صور النهب المتعددة التي تمارسها الحكومة والشركات الدولية ويقع ضحيتها المستهلكون.