كارثة تعويم العملات

كارثة تعويم العملات

24 يوليو 2016
بنك إنكلترا رصد 430 مليار دولار للدفاع عن الإسترليني(Getty)
+ الخط -

التعويم في أبسط تعريف له هو ترك سعر عملة دولة ما يتحرك أمام العملات الرئيسية، حسب العرض والطلب، فكلما زاد الطلب على العملة ارتفع سعرها والعكس، وفي هذه الحالة نجد أن المصارف المركزية لا تستهدف سعراً محدداً لعملاتها في حالة التعويم المطلق، ويكون سعر العملة هنا أقرب لسعر الذهب والمعادن والنفط الذي يتم تغييره يومياً في الأسواق الدولية، بل قد يتغير من ساعة إلى أخرى.

وفي حال التعويم المطلق لا تتدخل البنوك المركزية لاستهداف سعر إداري وعند نقطة محددة لعملتها المحلية مقابل الدولار واليورو والجنيه الإسترليني وغيره من العملات.

أما في حال التعويم المدار، Managed floating  وهو ثاني نوع من أنواع التعويم والأكثر انتشاراً، هنا تتدخل المصارف المركزية بائعة للدولار في حال حدوث مضاربات مفتعلة على العملة، أو أن تكون أسعارها غير حقيقية ومبالغاً بها وناتجة عن مضاربات من تجار العملة وقناصي الصفقات ولا تعبر عن أوضاع ومؤشرات الاقتصاد الحقيقية.

وقد يتدخل البنك المركزي مشترياً للدولار في حالة وجود سيولة كبيرة منه في السوق قد تؤدي لتراجع قيمة العملة المحلية، وهو ما قد يؤثر سلبا على قطاعات مهمة كالسياحة والتصدير والاستثمارات الأجنبية.

وكلمة التعويم ترددت كثيرا خلال الفترة الماضية، ولم تعد قاصرة على العاملين في إدارة السياسة النقدية ومقار البنوك المركزية وخبراء الاقتصاد والمال والمصارف، بل وصلت لرجل الشارع العادي، خاصة في دول المنطقة التي تشهد اضطرابات اقتصادية مثل مصر والجزائر، أو اضطرابات سياسية وأمنية مثل سورية واليمن وليبيا حيث انتشرت شائعات على نطاق واسع تقول إن المصارف المركزية في هذه الدول تتجه نحو تعويم عملاتها بعد أن فشلت في وقف تدهورها المتواصل أمام الدولار.

وفي حال التعويم المطلق للعملة، التي لا تستهدف سعرا محددا للعملة كما قلت، يكون حال سعر العملة مثله مثل أسعار السلع الموجودة في الأسواق، خاصة السريعة التقلب كالخضروات والفاكهة والطماطم والأغذية.

هنا لا تتحرك العملة صعوداً وهبوطاً بحسب المؤشرات الاقتصادية للدولة من معدلات نمو وبطالة وتضخم وأسعار مستهلكين ووظائف وصادرات وايرادات النقد الأجنبي، إنما تحركها المضاربات في سوق الصرف ورهان تجار العملة على حصد مزيد من الأرباح حتى ولو جاء ذلك على حساب الأسواق وأسعار السلع والاقتصاد الكلي.

ولذا فإن التعويم المطلق لا نجده في معظم دول العالم، حتى اقتصاديات مجموعة الدول الثماني الصناعية الكبرى، مثل الولايات المتحدة وبريطانيا وألمانيا واليابان نجد أن بها تعويماً شبه مدار، فهذه الدول تتدخل في سوق الصرف عن طريق مصارفها المركزية.

والدليل أزمة الإسترليني الأخيرة الناجمة عن قرار خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي، فعقب الهبوط الحاد للإسترليني عقب استفتاء يونيو الماضي من نحو 1.5 إلى 1.3 للدولار، هنا تدخل بنك إنكلترا المركزي، وأعلن رصد نحو 430 مليار دولار للدفاع عن العملة البريطانية ضد أي مضاربات محتملة وتلبية احتياجات المستثمرين والمؤسسات المالية الراغبة في الخروج من البلاد.

ولا توجد دولة في العالم تترك عملتها المحلية معومة تعويما كاملاً، وإلا تعرضت لخسائر فادحة كما حدث للاسترلينى إبان حكم مارغريت تاتشر في تسعينيات القرن الماضي، نظرا لخطورة ذلك على الاقتصاد الكلي وجاذبية البلاد للمستثمرين الدوليين وكذا ضررها للأنشطة المدرة للعملات الأجنبية مثل الصادرات والسياحة وتحويلات المغتربين.

ولذلك فإن معظم عمليات التعويم التي تتم في العالم تكون مدارة Managed floating بحيث يتم إدارة سوق الصرف من قبل المصرف المركزي.

قرار التعويم من أخطر القرارات التي تتخذها الدول، فربما من السهل على الحكومات أن تتخذ قراراً بالدخول في حرب مع أعداء، لكن من الصعب عليها أن تتخذ قراراً بتعويم عملتها، فالتعويم في حاجة لتوافر شروط كثيرة، منها امتلاك الدولة لاحتياطيات ضخمة من النقد الأجنبي، بحيث يتم من خلالها ليس فقط استهداف سعر محدد للعملة، ولكن الدفاع عنها ومواجهة أية مضاربات عليها، وكذا توافر سيولة دولارية ضخمة في السوق تلبي احتياجات المستثمرين والتجار والمستوردين وأصحاب المصانع والمسافرين للخارج للعلاج أو السياحة أو التعليم.

والكارثة هنا هي أن تقوم دولة ما بتعويم عملاتها دون امتلاك النقد الأجنبي والسيولة المالية الكافية، هنا يحدث تذبذب شديد في سعر العملة، وهذا أمر في منتهى الخطورة، لأن الاستثمارات الأجنبية تهرب من الدول صاحبة أسواق الصرف غير المستقرة والعملات المتذبذبة.

كما تهرب الاستثمارات المحلية أيضا من هذه الأسواق، لأنه في حال التذبذب الشديد للعملة يصبح من الصعب تحديد التكلفة الاستثمارية الحقيقية للمشروعات، وتتآكل معها الأرباح المحققة تحت ضغط التضخم وتذبذب العملة وارتفاع تكلفة الإنتاج خاصة للمواد الخام والسلع الوسيطة المستوردة.

ومن هنا فإن معظم المصارف المركزية العربية غير قادرة على تعويم عملاتها، لأنها لا تمتلك أدوات الدفاع الكافية ومواجهة المضاربات المحتملة كتلك التي تحدث حالياً.


المساهمون