الاقتصاد الدائري

الاقتصاد الدائري

02 يونيو 2016
مصنع إعادة تدوير النفايات في فرنسا (فرانس برس)
+ الخط -
شاهدت، قبل فترة، على شاشة "بي بي سي" البريطانية، حلقة عن إعادة التدوير والاستخدام للموارد والمواد التي سبق إنتاجها وانتهت آجالها، وورد ضمن الحديث اصطلاح "الاقتصاد الدائري"، فقررت البحث في الموضوع ومشاركة القراء ما توصلت إليه من معلومات ومصطلحات.
جاء أصل الاصطلاح في كتاب صدر عام 1989 بعنوان "اقتصاديات الموارد الطبيعية والبيئة" الصادر عن مطبعة جامعة جونز هوبكنز الأميركية، لمؤلفيه ديفيد بيرس وآر. كيري تيرمز. يقدم هذا الكتاب نبذة عن العلاقة بين الاقتصاد والموارد الطبيعية والبيئة ، كما يقدم التقسيمات المختلفة لانواع الموارد وطبيعة استخدام الانسان لها ، ويوضح ايضا طبيعة التكامل بين النظام البيئي والاقتصادي واهم ظواهر الانحراف في النظام البيئي واثارها الاقتصادية ، ويوجد التحليل الاقتصادي للموارد القابلة للنضوب، وكذلك تحليل للموارد المتجددة ، والأسس والمفاهيم التي يعتمد عليها التحليل الاقتصادي للموارد البيئية.
ويميز المؤلفان فيه بين ما يسمى الاقتصاد الخطي، حيث يكون استهلاك الموارد مفتوحاً، والاقتصاد الدائري، حيث يعاد تدوير الموارد ليُستفاد منها أكثر من مرة.
وتبع ذلك كتاب وضعته متخصصة في علم البيولوجيا، اسمها جانين بانيعاس، بعنوان "تقليد الطبيعة: التجديد المستلهم من الطبيعة"، يؤكد أن النظر إلى الأنظمة الموجودة في الطبيعة يمكن تقليد بعضها، بحيث نستطيع أن نوفر في استخدام الموارد، وتقدم الباحثة أمثلة كثيرة على ذلك في كتابها.
ووضع الباحث السويسري المتخصص في الهندسة المعمارية، وولتر ستاهيل، كتاباً اسمه "من المهد إلى المهد"، ونشره عام 1982، وذلك بعدما نشر نادي روما تقريراً، يدعو دول العالم إلى الاكتفاء بمعدل نمو سنوي قدره 1% طوال عقد السبعينيات، من أجل تقليل استخدام الموارد. وقد لاقى التقرير انتقاداً جارحاً كثيراً، خصوصاً من الدول النامية التي كانت تحتاج معدلات نمو مرتفعة، لكي تواجه مشكلات الفقر والبطالة.
ولكن التقرير استعاد أهميته لما يثبت، في نهاية عقد السبعينيات، أن معدلات النمو لم تزد عن 1%، ولكن بكلفة أعلى من الموارد المستخدمة.
ولو أن العالم اتبع نصيحة "نادي روما"، لوفّر على الأقل من 2% إلى 3% من الموارد التي استخدمت، وذهبت هدراً، لأنها لم تحسّن من معدلات النمو فوق النسبة التي اقترحها النادي، في مطلع العقد.
حينها تقدم ستاهيل بفكرة من المهد إلى المهد، عوضاً عن فكرة من "المهد إلى اللحد"، مؤكداً أن استخدام الموارد يمكن تجديده بدلاً من تركه يموت.

وقد سبقت هذه الفكرة ما نشره المؤلفان الأميركيان، بيرس وتيرنر، حول الاقتصاد الدائري والاقتصاد الخطي، سنوات.
ووضع رجل الأعمال البلجيكي، جونتر باولي، كتاب "الاقتصاد الأزرق". ويعني هذا الاصطلاح أن نجعل فضلات شخصٍ ما تدفقا نقديا لشخص آخر، أو للشخص نفسه. وهو ما يُشار إليه أحياناً، فإن قمامة شخص ما هي رزق شخص آخر.
وقدم باولي مائة فكرة مختلفة، ليثبت صحة آرائه التي نشرها في الكتاب الصادر في منتصف التسعينيات.
أبدى اقتصاديون كلاسيكيون ومحدثون، إعجابهم "بالرأسماليين"، بسبب قدرتهم على الإبداع، وفي كتابه المعروف "الاشتراكية والرأسمالية والديمقراطية"، طوّر الاقتصادي الأميركي النمساوي، جوزيف شمبيتر، فكرة "الهدم البناء" أو "الهدم الخلاق"، ليقول إن التكنولوجيا الحديثة تطور سلعاً وخدمات وأفكاراً جديدة تهدم ما قبلها.
وهكذا يفسر الدورات الاقتصادية طويلة الأجل في النظم الرأسمالية. وقال إن الرأسماليين والمنظمين يقومون بالتجديد الدائم، ويخلقون سلعاً جديدة، لكن هذا النمط من النمو سيقود، في نهاية المطاف، إلى إحداث دوراتٍ اقتصاديةٍ سلبيةٍ، يصعب الخروج منها، وتؤدي إلى سقوط الرأسمالية.
وفي معرض التصدّي لهذه الفكرة، وجدت أن باحثاً سعودياً قدّم مؤلفاً متميزاً يستحق التقدير الكبير. وهو طبيب أعصاب متخصص، ويتمتع بسمعة دولية عالية، ويعمل حالياً في جامعة هارفارد في الولايات المتحدة، الدكتور نايف الروضان، وقد نشر كتاباً قبل سنوات بالإنجليزية، اجتهدت في ترجمة عنوانه "ديمومة التاريخ وكرامة الإنسان".
ويرى فيه أن التاريخ خط ممتد، يستمد ديمومته من الحاكمية، والتي تحقّق بدورها عن طريق تحقيق التوازن بين الطبيعة البشرية، بسلبياتها المتمثلة في العاطفة الزائدة واللامنطقية والأنانية من ناحية، مع الجوانب الإيجابية المتمثلة في المنطق والعقلانية، والأمن، والعدل والفرص التجديد والاشتمالية.
بمعنى آخر، يؤكّد الدكتور الروضان أن ما يدفع الإنسان إلى الاستثمار، والسعي وراء الربح والقوة، غريزة الأنانية وحب الذات والسعي إلى مزيد من القوة والنفوذ، وهو ما قد يكون سبب المشكلة التي تحدث عنها جوزيف شمبيتر من الدورات الاقتصادية السلبية التي تؤدي إلى انهيار الرأسمالية.
ولذلك، يكتب الروضان أن استمرار المجتمعات والأنظمة لا بد وأن يجابِه هذه الغرائز بفعل إنساني خلقي، يقوم على احترام كرامة الإنسان، وعلى الحاكمية التي تستند إلى العقلانية والعدل والكرامة.
لا شك في أن الاقتصاد الأخضر يتطلب فهماً أعمق لضرورة الحفاظ على البيئة، مستخدمين الوسائل العلمية، ومقلّدين النظم الطبيعية، وخالقين الحوافز التي تدفع الناس إلى إعادة تدوير الموارد بشكل مربح، لأن كثيراً من هذه الموارد، كالماء ومصادر الطاقة والمواد الخام والمعادن النادرة، موجودة بكميات محدودة غير قابلة للتجديد.
آن لنا، في الوطن العربي، أن نعي الجوانب المختلفة لمفهوم الاقتصاد الدائري، وأن نبدأ في بناء نظم الإنتاج والبحث المحفزة عليه، لأننا يجب أن نكون أعلم الناس بقلة الموارد.

المساهمون