هوس التراكم.. الدرس التاريخي لكورونا (1-2)

هوس التراكم.. الدرس التاريخي لكورونا (1-2)

12 ابريل 2022
كورونا تشير إلى مشكلات أعمق وأمراض أبعد في أنظمتنا الاجتماعي (Getty)
+ الخط -

تبدو أزمة كورونا كما لو كانت قد انتهت، أو على الأقل أوشكت على التراجع به لمرتبة مرض عادي نستطيع التعامل معه طبيًا واجتماعيًا، لكن هل يمكن اختزال مشكلة كورونا حقًا في كونها مجرد مرض؟ ألا تشير إلى مشكلات أعمق وأمراض أبعد في أنظمتنا الاجتماعي؟

ألا يمكننا، بل ويتحتّم علينا، التمعّن كثيراً في دلالاتها ووعي دروسها؛ لئلا تتكرر تكاليفها الجسيمة؟!

يظن الكثيرون أنّ كورونا نتج كمجرد عَرض صحي "بيولوجي" نتاج اختلالات في البيئة وثقافة غذائية شاذة، يسخرون على أساسها من شعوب شرق آسيا وعلى رأسها الشعب الصيني. الحقيقة أنّه في جذوره أثر ونتاج "اجتماعي" لبنية ومنظومة عمل اجتماعية أشمل، هي ما ينتج حقاً اختلالات طبيعية وبيئية، بشكل يجعله يتجاوز كونه مجرد مشكلة صحية كما يتصوّر البعض، من دون وعي بكونها مجرد جزء من إطار أوسع بكثير أتى في سياقه المرض، وهو حالة الاختلال البيئي والتغيّر المناخي التي أثارت كثيرًا من التحذيرات والجدالات على مدى العقود الماضية، والتي تجعل المرض مؤشراً لحالة تحدّ اجتماعي شامل، لا مجرد أزمة صحية عابرة.

تلك الإشكالات الاجتماعية التي تتسبّب بها الرأسمالية، من دون أن تقدم لها حلولاً، متغاضية عن آثارها البعيدة، التي لا يعدو كورونا أن يكون واحداً منها، تصلح إن وعينا بخطورته أن تكون إنذاراً أوّلياً وتنبيهاً بسيطاً لمخاطر مسيرتها الحالية، التي لا يدرك الكثيرون كيف ترتبط نشأة الوباء ارتباطاً عميقاً بديناميات الرأسمالية!

جذور سوسيو-اقتصادية: البيولوجي الذي بدأ سوسيولوجياً!

كان ممن قدموا تفسيراً وتحذيراً شبه نبوئي بذلك الخطر، هو عالم البيولوجيا روب والاس في كتابه المنشور عام 2016 عن دور المزارع الكبيرة في خلق أجيال جديدة من مرض الإنفلونزا.

انتهى والاس في الكتاب إلى أنّ ظهور فيروس كورونا، كعائلة كاملة من الفيروسات ومنها الفيروس الحالي، بسبب تحويل بعض الغابات التي كانت تُمثِّل نظماً بيئية مُستقلة إلى أراضٍ زراعية ومزارع لتربية الحيوانات والدواجن على نطاق صناعي واسع، ومع التشابهات الجينية بين تلك الحيوانات ونظيرتها البرية التي كانت تعيش في تلك الغابات، سقطت تدريجياً السدود المناعية بينها وبين بعضها، ثم بينها وبين الإنسان بدوره، بسبب ضعف المناعة الناتج عن الزحام والإنتاج الكبير لتلك الحيوانات والنظم البيئية الجديدة، وما مثّلته من بيئة ملائمة لتحوّر الفيروسات وانتقالها جيئة وذهاباً بينها وبين الحيوانات البرية الأصلية.

وبسبب ذلك التغيير البيئي الذي أدى بحسب والاس، لما اعتبره تحالفاً بين المزارع الكبيرة ومرض الإنفلونزا، فنحن نتحدث هنا عن ثنائية تصنع المرض:

أولاً ميل نمط الإنتاج الرأسمالي الكبير المُتمحور حول خلق الأرباح لتوسيع نطاق تراكمه بشكل لا نهائي، حتى لو تبنّى في سبيل تحقيقه ذلك أساليب إنتاجية ضارة تخلق ظروفاً مواتية لنشأة وانتشار أمراض جديدة.

وثانياً الاختلالات البيئية الناتجة عن نهم التراكم الربحي، بما أدّى لاختلال العلاقة بين الإنسان والبيئة، وبشكل أعم التغيّر المناخي، الذي قاد -كذلك- لظهور أمراض جديدة مثل كورونا وسارس، وعودة أمراض قديمة مثل الملاريا والسل والأمراض الاستوائية، وقائمة طويلة مما يُعرف بالفيروسات الزومبي والأمراض البكتيرية المدفونة في الثلوج.

كورونا يصلح إن وعينا بخطورته أن يكون إنذارًا أوّليًا وتنبيهًا بسيطًا لمخاطر مسيرتها الحالية، التي لا يدرك الكثيرون كيف ترتبط نشأة الوباء ارتباطًا عميقًا بديناميات الرأسمالية!

طباع سوسيو-اقتصادية: ثلاثية التراكم والتوزيع والبيئة!

ينقلنا هذا من الانشغال بالمرض "البيولوجي" لفهم المرض "السوسيولوجي"، أو بصيغة أخرى المحركات الاقتصادية-الاجتماعية الكامنة خلف تلك الحالة العامة من الاختلال البيئي الخالقة للأمراض، الممهدة لاستحداثها واستعادة ميتها وتفشي خاملها، والتي نجدها تتمفصل، ضمن الإطار الأوسع، عبر عقدة اللقاء المعقد بين الحاجات الإنسانية المتزايدة كمًا والمتعاقدة كيفًا، وآليات إشباعها العاملة وفقًا لمنطق النظام الاقتصادي السائد.

يشير تقرير الصندوق العالمي لحماية الطبيعة لعام 2006، إلى تجاوز الاستهلاك البشري لقدرة الطبيعة على تجديد مواردها بنسبة 30%، حيث سجّل عن عام صدوره استنفاد الاستهلاك البشري لأقل من عشرة شهور، كامل إنتاج الطبيعة لذلك العام.

ويمثل ذلك نمطاً غير مُستدام للعلاقة بين الطلب الإنساني والعرض الطبيعي، أو للبصمة الوراثية وفقاً للاصطلاح المتداول؛ بشكل يهدد توازن الطبيعة وتجدّدها نفسه، فضلاً عن استمرار كفاية الموارد نفسها لحاجات الأجيال القادمة، وهو الاتجاه المُتصاعد بوتيرة شديدة الخطورة، إذ لاحظ التقرير ارتفاع متوسط الموارد الطبيعية اللازمة لإشباع حاجات الفرد من 1.8 إلى 2.2 هكتار إنتاجي (وحدة قياس البصمة الوراثية) بين عاميّ 2003 و2006 فقط، الأمر الذي تزداد خطورته مع التزايد السكاني عموماً، وتزايده ضمن سياق سوء توزيع الدخل خصوصاً (فحتى انخفاض الدخل لا يلغي الاتجاه العام كلياً)!

كافة الرؤى الاقتصادية الكلاسيكية على غلبة الميل للركود في النظام الرأسمالي في الأجل الطويل؛ بما يعقبه ويرتّبه من تفاقم للأزمات الاقتصادية والاجتماعية

وهو ما يلتقى مع نتائج تقرير "حدود النمو" الشهير، الذي صدر عن نادي روما عام 1972، مؤكّدًا على ضرورة التوازن بين حاجات السكان ونمو الاقتصاد من جهة، واستهلاك الموارد والتوازن البيئي من جهة أخرى، ومُحذّراً من تجاوز "الاقتصاد لحدود الطبيعة" بعدم ترشيد الإنتاج، ومعه الاستهلاك، ما يذكّرنا بقول المهاتما غاندي الشهير، إنّ الأرض يمكنها إشباع كافة حاجاتنا جميعاً، لكن ليس جشعنا جميعاً!

مع ذلك، تظل مشكلة تقرير النمو وما شابهه، اختزاله دلالة ظاهرة تدهور البصمة البيئية في ظاهرها البسيط كمجرد قيد على النمو يحتّم ترشيد الأخير، دونما تعمّق وتفحّص لمُجمل العلاقة الإشكالية، ما لا يبتعد كثيراً عما تفعله تفسيرات الوباء الأخير بربطه بأسباب بيولوجية وممارسات ثقافية بحتة، وتجاهل الأبعاد السوسيولوجية الكامنة في صلب الظاهرة، وطبيعة الدوافع المُحركة للنظام الاجتماعي السائد، أو بصيغة أخرى، بكيفية عمل الرأسمالية بطبيعتها التكوينية ذاتها!

لا يختلف أحد على قيام النظام الرأسمالي على حافز الربح، ارتباطًا بقيادة القطاع الخاص للنشاط الاقتصادي بكافة مناحيه، ما يتجلّى عملياً في ربط مصلحة المجتمع بمصلحة القطاع الخاص، بل وتحقيقها من خلاله بالأساس.

أدى ذلك لهيمنة حسابات واعتبارات الربح على ما سواها من حسابات واعتبارات اجتماعية، بشكل أنتج وغلّب نوعاً من العقلانية الاقتصادية ضيقة الأفق قصيرة الأجل على أولويات العقلانية الاجتماعية الأوسع أفقا والأطول أجلاً.

ويتصل بهذا على النطاق الأوسع سعي رأس المال للتراكم المستمر، مرتبطًا بذلك بهدف "النمو للنمو" على مستوى الدول والمجتمعات، أو ما يُعرف بهوس مؤشر الناتج المحلي الإجمالي "GDP" الشهير، الذي يفترض قدرة لا نهائية للنمو الاقتصادي وتوسّع الاستهلاك، بغض النظر عن حدود الموارد الطبيعية وحاجات التوازن البيئي.

أخلّ ذلك بعلاقة التبادل بين الإنسان والبيئة، حتى نشأ ما عُرف بالفجوة الإيكولوجية التي تُعبّر عن اختلال علاقة التبادل والتوازن تلك بين الطرفين، ما يشبه قول ماركس بأنّ "كل تقدم يتحقق في الزراعة الرأسمالية هو تقدم في سرقة العامل وسرقة التربة؛ وكلّ تقدم يتحقق في زيادة خصوبة التربة لفترة معينة، هو تقدم نحو تدمير المصادر الدائمة لتلك الخصوبة".

خرّب هذا الهوس الإنتاجي/الاستهلاكي التوازن البيئي، سواء بشكل مباشر باستهلاك الموارد لمصلحة إنتاج واستهلاك مُفرطين غير ضروريين، أو بتخريبه بشكل غير مباشر بنفاياتهما

كما يذكّرنا بقول رفيقه إنجلز عن ردود الفعل أو الارتدادات العكسية لأفعالنا بالطبيعة، وكيف تنعكس علينا بالسلب من حيث لا ندري، بضرورة "ألّا نغترّ كثيراً بمقولات انتصار البشر على الطبيعة، فمقابل كلّ انتصار نظنه كذلك تنتقم منا الطبيعة، وبينما يأتي انتصار ما بالنتائج المتوقعة المرجوة، تلحقه كذلك نتائج جانبية غير متوقعة، كثيراً ما تلغي النتائج الأوّلية.

لذا، لا بدّ أن نتذكر مع كلّ خطوة أننا لا نستطيع التحكم في الطبيعة كفاتحٍ طاغ، فما نحن سوى بشر ننتمي للطبيعة ونحيا في أحضانها، ولا تعدو ميزتنا تجاهها عن باقي الكائنات، سوى قدرتنا على فهم قوانينها والاستفادة منها".

يعود بنا ذلك للجدل القديم حول ثلاثية "النمو والتوزيع والبيئة" المترابطة، والذي مثل تقريبًا معظم الخلفية النظرية في نطاق الأكاديمية الاقتصادية للصراعات الاجتماعية والطبقية للقرنين المنصرمين، مُتمحوراً كله تقريباً حول ذلك "التراكم" المهووس لرأس المال، فالتراكم هو أساس النمو من ناحية، وهو ما يتحقق بالمنطق الرأسمالي على حساب عدالة التوزيع من ناحية ثانية، كذا هو ما يجتاح ضرورات التوازن البيئي في طريقه من ناحية ثالثة!

موقف
التحديثات الحية

وبينما يتركّز جدل "النمو والتوزيع" على العلاقات الطبقية في النطاق الاجتماعي، يستهدف جدل "النمو والبيئة" العلاقات البيوجتماعية في النطاق الإيكولوجي، لتتنوع الآراء وتتوزّع المواقف على ألوان طيف الفكر الاقتصادي، لكن باتفاق عام وشبه إجماع على مستقبل مضاد لنمط التراكم والنمو الرأسمالي، أو يكاد يكون كذلك!

من جهة أولى، على صعيد علاقة التراكم والنمو، رأى الاقتصاديون الكلاسيكيون الأوائل، من آدم سميث وحتى جون ستيوارت ميل، اتجاهاً للركود طويل الأجل في النظام الرأسمالي، حيث يؤدي الطلب المتزايد على السلع الزراعية مع زيادة السكان، إلى ضغط متزايد على الأراضي؛ فتتصاعد الريوع التي يحصل عليها ملاك الأراضي؛ كما ترتفع تكاليف المعيشة ومعها الأجور وتكاليف الإنتاج عمومًا؛ فتنخفض الأرباح ومعها الادخار والاستثمار، وبالمُجمل حوافز المستثمرين؛ فينخفض التراكم الرأسمالي والنمو الاقتصادي ويدخل الاقتصاد في حالة من الركود شبه الدائم في الأجل الطويل.

يفسّر هذا توحشّ الرأسمالية وارتداداتها عن كثير مما حققته من تقدم اجتماعي وإنساني خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، بالضغط المستمر على كافة عناصر التكاليف

من جهة ثانية، على صعيد علاقة التراكم والبيئة، عمّق توماس مالتوس من ذلك التشاؤم الكلاسيكي طويل الأجل بنظريته الشهيرة في التوازن الاقتصادي-الديموغرافي الحديدي، بسبب توقعاته بعدم التوافق بين معدلات نمو السكان ومعدلات نمو إنتاج المواد الغذائية، والتي اشتهرت مجازيًا بالمتوالية الهندسية للأولى مقابل المتوالية الحسابية للثانية.

يؤدي ذلك لنمو فجوة الندرة بينهما؛ بشكل تواجهه الطبيعة بآليات علاجية قاسية لإعادة التوازن، تأخذ أشكال زيادة الفقر والجريمة والمجاعات والأمراض والحروب، وهو الخط الذي استمر لاحقًا بعديد من الصيغ الجديدة مثل المصيدة المالتوسية (نسبة إلى مالتوس) وأدبيات أزمة الطاقة والتناقض بين زيادة السكان والموارد الطبيعية غير المتجددة وما شابه من صيغ، ما حفّز كوسيلة للمواجهة البحث عن حلول تكنولوجية لمشكلات الغذاء والطاقة، ولو على حساب البيئة واستدامة الموارد وجودة السلع والحياة ومستوى الصحة العامة.

من جهة ثالثة، على صعيد علاقة التراكم والتوزيع، تبنّى جون ستيوارت مِل نفس الرؤية الركودية العامة مع محاولته تقديم حلّ بديل، بتأكيده على ضرورة التخلّي عن منطق التراكم الرأسمالي الدائم، والنمو الاقتصادي المتسارع، لصالح نموذج اقتصادي مختل، يقبل بمبدأ تجميد النمو لصالح توزيع دخل وثروة أكثر عدالة؛ بما يرفع المتوسط العام لمستوى المعيشة الفعلي.

وافقه بطريقة مختلفة كارل ماركس، الذي وضع مجموعة من القوانين العامة للتطور الرأسمالي طويل الأجل، تنتج كلّها عن الزيادة المطردة في التركيب العضوي لرأس المال، أي غلبة رأس المال الثابت على رأس المال العامل في جملة رصيد رأس المال الإنتاجي؛ ليتوقع على أساسها ميلاً عاماً لانخفاض معدل الربح، وتعاظماً في تركّز رأس المال مع زيادة الآلية، وتمركزه مع الاندماجات الاحتكارية، وتفاقماً للفقر المُطلق مع انخفاض الأجور وتضاؤل فرص العمل، وتسارعاً في الأزمات الدورية مع اختلال العلاقة بين العرض والطلب؛ بما يستدعي في مجموعه تحولاً في المنطق الاقتصادي بمجموعه، بالانتقال إلى نظام اجتماعي بديل، لا يجعل التراكم قضيته الوحيدة.

المساهمون