استمع إلى الملخص
- قناة بنما، التي افتتحت في 1914، تربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ وتساهم في 5% من التجارة العالمية، مما يجعلها ذات أهمية كبيرة للولايات المتحدة واقتصاد بنما.
- تاريخياً، كانت القناة محوراً للصراعات، حيث نقلت السيطرة إلى بنما في 1999 بعد معاهدات كارتر، ولا يزال الجدل قائماً في الولايات المتحدة حول هذه المعاهدات.
عقب إعلان فوزه بالانتخابات الرئاسية في 2024، هدد الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 22 ديسمبر/كانون الأول الماضي بإعادة فرض سيطرة بلاده بالكامل على قناة بنما. ووصف الرسوم التي تفرضها بنما للعبور في القناة بأنها سخيفة وغير عادلة.
ويوم 7 يناير الحالي، عاود تهديده باستعادة السيطرة على القناة، ورفض استبعاد استخدام القوة العسكرية أو الاقتصادية لتحقيق هدفه. وبرر تهديده بأن حكومة بنما تفرض رسوم عبور باهظة على السفن الأميركية المارة في القناة، وأنها تساعد في تمدد النفوذ الصيني في الممر المائي الحيوي بالنسبة للولايات المتحدة. كما أن إعادة السيطرة على القناة "سيعزز الأمن القومي والاقتصاد الأميركي".
أهمية قناة بنما
رغم مرور 110 سنوات على افتتاحها، ما زال بناء قناة بنما أحد أعظم الإنجازات الهندسية البشرية حول العالم على الإطلاق. فالقناة التي بنتها الولايات المتحدة في سنة 1914 وتربط بين المحيطين الأطلسي والهادئ عبر دولة بنما في أميركا اللاتينية، قلصت رحلة السفن حول الأميركيتين نحو شهر من مدة الرحلة الأصلية، وقصرت المسافة من 21 ألف كيلومتر إلى 8 آلاف. ويمر عبرها نحو 5% من حجم التجارة العالمية. ويصل عدد السفن التي تمر بها سنوياً إلى 14 ألف سفينة، بمعدل 70 ألف حاوية أسبوعياً.
وقناة بنما هي الممر الوحيد لما لا يقل عن 140 طريقاً بحرياً حول العالم، والرابط الوحيد بين 1700 ميناء حول العالم في 160 دولة. والولايات المتحدة هي المستفيد الأول والزبون الأكبر للقناة، حيث تتجه 75% من السفن المارة بالقناة من وإلى الولايات المتحدة. وحسب بيانات القناة في سنة 2024، مرت بالقناة حاويات بضائع تحمل 160 مليون طنٍ للولايات المتحدة، و45 مليون طن للصين، و31 مليون طن لليابان، و20 مليون طن لكوريا الجنوبية، و17 مليون طن لتشيلي.
وتنعش القناة اقتصاد بنما بإيرادات رسوم عبور السفن المباشرة، وبعوائد غير مباشرة من الصناعات والخدمات اللوجستية للسفن العابرة. وبلغت إيرادات القناة السنوية نحو 1.8 مليار دولار، وهو ما يمثل نسبة 6% من الناتج المحلي الإجمالي لبنما. وكانت القناة سبباً في تحسين دخل البنميين، فقد بلغ معدل الفقر في بنما قبل 1979 حدود 40% وظل ثابتاً حول هذه النسبة، وبعد تسلم إدارة القناة في سنة 2000، أخذ في التراجع حتى 12.5% في سنة 2023.
وفي سنة 2016، زاد دخل القناة بعد أن أنهت بنما بناء ممر جديد للقناة بعد تسع سنوات من البناء وبتكلفة 5.2 مليارات دولار وبطول ستة كيلومترات وبعمق خمسين متراً، لتتمكن من استقبال السفن المحملة بأكثر من 5 آلاف حاوية وحتى 17 ألفاً، وكانت تتجه إجبارياً إلى قناة السويس، الأمر الذي اضطر هيئة قناة السويس لتخفيض رسوم العبور لهذه الفئة من الشاحنات بنسبة 60%.
القناة صناعة أميركية
تدخل ترامب في شؤون القناة له جذور تاريخية وصراعات تجارية وسياسية مرتبطة بمصالح الولايات المتحدة الاقتصادية. فقد كان حفر قناة بنما حلماً أوروبياً وأميركياً يعود لعدة قرون خلت. وفي أول محاولة جادة لبناء القناة، أسس الفرنسيون الشركة العالمية لقناة ما بين المحيطين في سنة 1881 برئاسة الدبلوماسي، فرديناند دي ليسبس، الذي قدر أن تتكلف المهمة 120 مليون دولار، وتستغرق 12 سنة. وهو صاحب إنجاز بناء قناة السويس خلال 10 سنوات وبطول 190 كيلومتراً، وباستخدام مليون فلاح، سخرهم الخديوي سعيد ثم الخديوي إسماعيل للمهمة، مات منهم 120 ألفاً، ونجح في إتمام بناء القناة سنة 1869. وكما اعتمد دي ليسبس على الفلاحين المصريين في حفر قناة السويس بالسخرة، سخر العمال الأفارقة والهنود المحليين في حفر قناة بنما.
ولصعوبة بيئة العمل في الغابات وانتشار الأوبئة، مات عشرون ألفاً من العمال خلال ست سنوات. لكن الأخطر أن فساد واحتيال دي ليسبس على العمال وأصحاب الأموال وفشله في الحصول على امتيازات حكومية كالتي حصل عليها من الخديوي في مصر بطرق لا أخلاقية، عجل بفشل المهمة، وأعلنت شركة قناة بين المحيطين في ديسمبر 1888 فشلها وتوقفها عن العمل، وخسر آلاف المستثمرين الفرنسيين أموالهم، ولحقت الفضيحة دي ليسبس الذي أنفق 287 مليون دولار في حفر 17 كيلومتراً فقط من طول القناة البالغ 77 كيلومتراً.
استغل الرئيس الأميركي ثيودور روزفلت الفرصة. وفي عام 1902، توصلت الولايات المتحدة إلى اتفاق لشراء حقوق ملكية القناة الفرنسية ومعداتها بمبلغ لا يتجاوز أربعين مليون دولار. ثم بدأت الولايات المتحدة في التفاوض على معاهدة لبناء قناة بنما مع حكومة كولومبيا صاحبة السيادة على الأرض، وعندما تحفظت كولومبيا على المبلغ المفروض، حرك روزفلت الأسطول الأميركي لدعم تمرد شعبي استمر لساعات، ثم أعلن استقلال بنما في سنة 1903، وفق مركز روزفلت البحثي.
ومنحت حكومة بنما الوليدة الولايات المتحدة شريطاً من الأرض بعرض 10 أميال لبناء القناة، في مقابل 10 ملايين دولار دفعة واحدة، و250 ألف دولار إيجاراً سنوياً، في مقابل السيادة على القناة وحماية استقلال بنما. استمر العمل لأكثر من عشر سنوات، بمشاركة 70 ألف عامل، مات منهم نحو 5600 عامل، وبلغت تكاليف البناء أكثر من 380 مليون دولار، واكتمل بناء القناة في عام 1914.
معاهدات كارتر
بسبب إساءة الإدارة الأميركية معاملة العمال البنميين وانخفاض قيمة الإيجار السنوي، طالبت بنما بمراجعة معاهدة القناة، وفي سنة 1964 اندلعت احتجاجات مناهضة لأميركا أدت إلى مقتل عمال في منطقة القناة وقطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين، ورفض جميع رؤساء أميركا التفاوض، حتى تولى جيمي كارتر الرئاسة في عام 1977، وتفهم مطالب بنما. كانت محاولة التصديق على معاهدة التخلي عن القناة بمثابة خسارة سياسية، وكانت مهمة صعبة في مجلس الشيوخ، وقيل لكارتر إن عليه أن ينتظر حتى ولايته الثانية لإتمام أي صفقة من شأنها أن تنقل السيطرة على قناة بنما إلى البنميين، ولكنه تجاهل النصيحة. ورغم أن استطلاعات الرأي أظهرت أن ثلثي الشعب الأميركي يعارضون التخلي عن القناة، وكان التصديق يتطلب دعم ثلثي أعضاء مجلس الشيوخ، شرع كارتر في العمل على بناء ائتلاف هش من الحزبين.
وبمساعدة هيئة الأركان المشتركة، أقنع زعيم الأقلية أعضاء مجلس الشيوخ هوارد بيكر بأن التمسك بالقناة يتطلب بقاء 100 ألف جندي أميركي في بنما بشكل دائم لحماية القناة، التي تشكل أهمية حيوية لتجارة الولايات المتحدة والعالم. وقاد كارتر بإنصاف التوقيع على معاهدتين بموجبهما آلت القناة إلى سيادة بنما في 1 أكتوبر/ تشرين الأول 1979، على أن تبقى القناة محايدة ومفتوحة أمام جميع السفن، وأن تكون السيطرة على القناة مشتركة بين الولايات المتحدة وبنما وعلى منطقة القناة لمدة عشرين سنة، حتى نهاية عام 1999، ثم تمنح بنما السيطرة الكاملة.
ويبدو أن ثقافة رد الحقوق لأصحابها كانت غريبة عن المجتمع الأميركي الأبيض الذي طرد الهنود الحمر من أرضهم، فحاول كارتر إقناع الشعب بقرار رد القناة، فألقى خطاباً بعد توقيع المعاهدتين، برر فيه قرار تسليم القناة لأصحابها. واعترف بسيطرة أميركا على أرض القناة بعرض عشرة أميال في قلب بنما دون وجه حق، وأقر بجور الاتفاقية الأصلية على حق البنميين، وكشف عن أنها تمت صياغتها في الولايات المتحدة ولم يوقع عليها أي بنمي، وهذا لا يعطي الولايات المتحدة أي حق للتدخل في الشؤون الداخلية لبنما. ورغم مبررات كارتر الوجيهة، رفض معظم الأميركيين مبررات كارتر. وما زال كثير منهم يرفضون معاهدة كارتر ويتوقون للسيطرة على القناة حتى الآن، ولذلك يداعب ترامب عواطفهم القومية. ويرى آخرون أن تخلي كارتر عن القناة كان سبباً في عدم فوزه لولاية ثانية أكثر من احتجاز الرهائن في السفارة الأميركية بطهران.
الانقلاب على معاهدات كارتر
يسوق ترامب مبررات غير قانونية للتدخل في القناة، ويعتبر أن قرار كارتر بتسليم إدارة قناة بنما للدولة البنمية كان كرماً مبالغاً فيه وتفريطاً في حقوق الولايات المتحدة ومصالحها، وأن القرار تم اتخاذه "بحماقة شديدة" من الولايات المتحدة، وأن حكومة بنما لا تأخذ الكرم الاستثنائي الذي قدمته الولايات المتحدة لبنما في الاعتبار، وأن القناة وإن كانت قد منحت لشعب بنما، ولكن بشروط وأحكام. وزعم في مقابلة أجريت معه سابقاً أن 35 ألف أميركي لقوا حتفهم في بناء القناة. وهو رقم مبالغ فيه، ولا يتطابق مع تقديرات المؤسسات الأميركية الرسمية، وقد يكون ذريعة للتهديد والابتزاز المالي ليس أكثر.
مع الوضع في الاعتبار، أن محاولة استعادة القناة، سيعرض القوات الأميركية والسفن المارة بها لهجمات الشباب البنمي الحتمية، وربما تتوقف الملاحة فيها كما توقفت في قناة السويس أثناء الحرب مع إسرائيل. وإذا توقفت الملاحة في القناة، ستضطر الولايات المتحدة وشركاؤها التجاريون لدفع ثلاثة أضعاف ما يدفعونه الآن مقابل مرور السفن التجارية الخاصة بهم حول أميركا الجنوبية. وإن كانت أميركا قد بنت القناة، فليس لها الحق في تملكها إلى الأبد، فالقناة ومرافقها تقع على أراضي بنما، ولا بد للحق أن يعود لأصحابه.
ولا يعقل أن تحرر الولايات المتحدة دولة بنما وتفصلها عن كولومبيا سنة 1903، ثم تحتل هي أراضيها بالقوة العسكرية وتقوض استقلالها السياسي بعد 122 سنة من الاستقلال، لأن ذلك يضر بثقة الحكومات الحليفة في أميركا الجنوبية وحول العالم. كما أن تخلي الولايات المتحدة عن القناة التي بنتها في مقابل حق انتفاع لمدة 86 سنة، ثم العودة للسيطرة عليها يفقد إدارة ترامب المصداقية الدولية ويصمها بعدم احترام مبادئ القانون الدولي. ورغم ذلك، ستدق تهديدات ترامب حول قناة بنما ناقوس الحذر في دول أوروبا الحليفة للولايات المتحدة والدول التي تبرعت بسخاء في رئاسته السابقة.