هل تضحي الصين بمصالحها مع أميركا؟

هل تضحي الصين بمصالحها مع أميركا؟

05 اغسطس 2022
زيارة رئيسة مجلس النواب الأميركي نانسي بيلوسي ترفع حدة التوتر بين بكين وواشنطن (getty))
+ الخط -

زارت نانسي بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأميركي تايوان الثلاثاء 2 أغسطس 2022، وغادرتها في اليوم التالي، وهي زيارة لها أبعاد وتداعيات سياسية كبيرة، ذهب معها البعض إلى أنها ستكون سببًا لحرب بين أميركا والصين، بسبب الأجواء التي أحاطت بالزيارة، حيث صاحبت طائرة بيلوسي طائرات حربية أميركية.

لم يكن الأمر بسيطًا، حيث اعترضت الصين على الزيارة، لكن في النهاية تمت، وأعلنت الصين عبر المتحدثة باسم خارجيتها أن "إجراءات الرد على زيارة بيلوسي إلى تايوان، ستكون حاسمة وستتحمل تايبيه وواشنطن مسؤولية عواقبها". كما أعلنت عن مناورات جوية خلال الفترة 4 - 7 أغسطس في المنطقة المحيطة بتايوان.
إلى هنا ثمة أصوات سياسية، وتحركات عسكرية منتظرة، ولكنها لا ترقى لما توقعه البعض من حرب مباشرة على نسق ما تم في أوكرانيا من قبل روسيا. وبين السطور أمور أخرى قد لا يدركها البعض، حول حجم العلاقات التجارية والاقتصادية بين أميركا والصين.
بداية نلحظ أن الدرس المستفاد إبان الحرب التجارية بين البلدين خلال الفترة من 2017 - 2020، والتي أدارها الرئيس الأميركي السابق ترامب، كانت الصين تتأنى بشكل كبير في قراراتها، ولم يلحظ عليها أنها كانت بادئة بأي قرار ضد أميركا، بل أتت كل قراراتها كرد فعل على ما يتخذه ترامب من قرارات، كما حرصت على أن تكون قراراته بالمثل من حيث الكم والكيف.
وهنا يجب التذكر أن الصين لديها استثمارات في السندات الأميركية بما يزيد قليلًا عن تريليون دولار، وتحل في المرتبة الثانية على مستوى العالم بعد اليابان، بعد أن احتلت المرتبة الأولى لسنوات، كما يوجد قرابة مليون طالب صيني في الجامعات ومراكز البحوث الأميركية، للدراسات الجامعية وما بعد الجامعية.
ولك أن تتخيل أن توقف أميركا وأوروبا تصدير الطائرات المدنية وقطع غيارها للصين، نعم هناك تجارب صينية لإنتاج الطائرات المدنية، ولكنها لم ترق بعد للقيام بنفس وظائف الطائرات الأوروبية والأميركية، فضلًا عن اعتماد الطائرات الصينية على مكون رئيس بها هو الموتور يستورد من أوروبا.

الصين والكيكة الأميركية
البيانات الأميركية الرسمية عن طبيعة العلاقات التجارية مع الصين، تبين بوضوح أنه خلال الفترة 2011 – 2021 بلغ حجم التجارة بين البلدين 6.4 تريليونات دولار تقريبًا، ونتج عن هذا الحجم فائض تجاري لصالح الصين بنحو 3.7 تريليونات دولار تقريبًا، ولنا أن نتخيل تبعات هذا الأمر بالنسبة للبلدين.
أما عن الشهور الأولى من عام 2022، وتحديداً الفترة يناير- مايو 2022، بلغ حجم التبادل التجاري بين البلدين 282 مليار دولار، وكالعادة أسفرت التعاملات عن فائض لصالح الصين بنحو 163 مليار دولار تقريبًا.

فهل ستتخذ الصين من القرارات السياسية والعسكرية ما يمكنها من الصدام مع أميركا، وتتخلى عن تلك الكيكة التجارية التي تساعد على بقاء العديد من المشروعات الصناعية والزراعية، وفرص العمل، والحياة الاقتصادية شبه الكاملة لقطاعات واسعة من شعبها؟
في إطار العنتريات العربية، والقراءات الرغائبية للبعض بوطننا، تدار العديد من المعارك، ويحدد فيها المنتصر والمهزوم، دون أن يتحرك شيء على أرض الواقع، ولكن في إطار التجربة الصينية، فالأمور سيكون لها حسابات أخرى.
فمجرد تراجع قيمة التبادل التجاري، ولو بنسبة 50% مما هو عليه بين الصين وأميركا، ستكون هناك مشكلات كبيرة داخل الصين، تتعلق بقروض بنكية لشركات ومؤسسات، وفقدان لملايين من فرص عمل في المصانع والمزارع، وشركات النقل والشحن والتأمين وغيرها. وهو ما يجعل متخذ القرار في الصين يتمهل بشأن اتخاذ أي قرار من شأنه أن يحقق حالة صدام مع أميركا.
فتجربة روسيا ما زالت ماثلة أمام الصين، فبعد غزو روسيا أوكرانيا، انحازت أوروبا فورًا للخيار الأميركي، وهو ما كبد روسيا خسائر كبيرة. نعم هناك مشكلات تتعلق بإمدادات الطاقة الروسية لأوروبا، ولكن أميركا وأوروبا تراهنان على عامل الوقت، وأن استنزاف روسيا وهزيمتها سيكونان عبر الجانب الاقتصادي، وإن بدت روسيا شبه متماسكة، ولكن لننتظر حتى نهاية عام 2023، لتكون النتائج معبرة عن الواقع الحقيقي لأداء الاقتصاد الروسي.
ومن هنا لا تريد الصين أن تدخل تلك التجربة، فالصين حققت مكاسب كبيرة من وضع روسيا، ولم تنحز لها سياسيًا أو اقتصاديًا بشكل تام أو صريح، فالصين حصلت على صفقات كبيرة في إطار ما يعرف بـ "النفط الرخيص".
ودخول الصين معترك الصراع المباشر مع أميركا، يعني تقليص حركة نشاطها التجاري والاقتصادي الخارجي، وقد تعود لما يشبه حقبة ما قبل الانفتاح الاقتصادي والاندماج في العولمة، لتقتصر حركتها التجارية والاقتصادية على علاقات مع بلدان روسيا وكوريا الشمالية، وبعض البلدان التي قد تجد نفسها مضطرة للتعامل مع الصين، لتوفير بعض السلع الضرورية ولفترات محددة.

أين سترد الصين؟
القراءة السياسية والعسكرية للأزمة، ليست من اختصاص كاتب هذه السطور، وقد تكون هناك ردود فعل صينية سياسية أو عسكرية أو لا تكون، ولكن بالنسبة للرد على الصعيد الاقتصادي، فهناك مساحات يمكن للصين أن تتحرك فيها، ومنها استمرار التمدد الصيني في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية، وهي مساحات اتجهت لها الصين منذ ما يقرب من 20 عامًا، وهذا التمدد ليس مقصودًا في حد ذاته، ولكنه مقصود لأغراض تتعلق بمجموعة أهداف صينية، من بينها محاصرة المصالح الأميركية أو منافستها في هذا المناطق، والعمل على وجود مساحات من المصالح الاقتصادية والتجارية مع تلك الدول.
قد يتصور البعض أنه بإمكان الصين أن تدفع تجمع "البريكس" للدخول في حرب سياسية أو عسكرية أو اقتصادية ضد أميركا وأوروبا، ولكن حقيقة الأمر أن مصالح بعض تلك البلدان مع أميركا، كما أنه بينها وبين الصين عداءات تاريخية مثل الهند، التي هُزمت في حربها مع الصين عام 1962، وما زالت آثارها السلبية غائرة لدى الهنود.

وقد تذهب الصين في بعض المساحات الدولية التي تسعى أميركا لاستمرار السيطرة عليها، سواء كانت مبادرات دولية أو حتى منظمات دولية قائمة، كما هو موجود الآن في البنك والصندوق الدوليين، أو منظمة التجارة العالمية، ولعل ساحة المنظمة الأخيرة تكون في صالح الصين لعرقلة بعض المصالح الأميركية، بل وحتى الوصول لإدانة التصرفات الأميركية، حيث يتضرر من التصرفات الأميركية بلدان كثيرة، نامية وصاعدة، وهي الأجندة التي تستطيع فيها الصين محاصرة أميركا، أو على الأقل إيجاد عراقيل أمام الرغبات والمصالح الأميركية.
ولعل ساحة الأمن السيبراني، تكون مفتوحة أمام البلدين، لتكون نافذة للصين لتهديد المصالح الأميركية، عبر الحصول على البيانات والمعلومات الأميركية، أو الإضرار بها، أو الحصول على تكنولوجيات محظور الحصول عليها، فضلًا عن الحظر على الاطلاع عليها. وهذا الأمر قائم منذ فترة، وبسببه حظرت اليابان وأوروبا وأميركا استيراد بعض الأجهزة والشبكات الخاصة بشركة "هواوي".
في الختام، لا يعرف التاريخ دوام سيطرة قوة ما على مقدرات العالم على الدوام، ولكن ثمة متغيرات تأتي بقوى أخرى، سواء كان قوة واحدة أو قوى متعددة، ولكن لا يزال الأمر يحتاج إلى وقت لتزول سيطرة أميركا عن العالم.

المساهمون