هل تحافظ مدن إدلب الشمالية على ازدهارها التجاري بعد الانفتاح على بقية المحافظات السورية؟
استمع إلى الملخص
- الظروف السياسية والاقتصادية ساهمت في تعزيز النشاط التجاري، حيث أصبح معبر باب الهوى مركزاً للتجارة الحرة، مما أدى إلى انتعاش الأسواق المحلية بفضل دخول البضائع التركية.
- المخاوف تتزايد بشأن تراجع الدور التجاري لشمال إدلب مع تغير الأوضاع السياسية، مما قد يقلل الاعتماد على معبر باب الهوى ويؤثر على التجار المحليين.
سرمدا، الدانا، أطمة وغيرها من المدن في المنطقة التجارية الأهم شمال إدلب والتي تضم أسواقاً متطاولة وأحياء مزدهرة اقتصادياً بعد أن كانت قرى نائية قبل خمسة عشر عاماً، لكن كيف تحول شمال إدلب من ريف ناء وقرى مهمشة إلى منطقة تجارية مزدهرة يمر منها معظم البضائع القادمة أو الذاهبة إلى الخارج، وكيف تحولت إلى مدن المولات والمراكز التجارية والأسواق المزدحمة بعد أن كانت منخفضة التعداد السكاني وبدون أسواق محلية باستثناء "دكاكين" قليلة ومتفرقة؟
مرت على منطقة شمال إدلب ما يسميها مراقبون بـ"طفرة الشمال"، وهي فترة استثنائية شهدتها المنطقة، ازداد فيها عدد سكانها لأرقام تاريخية لم يسبق أن وصلت إليها قرى الشمال، وذلك عندما تواترت عمليات النزوح منذ سنوات الثورة الأولى من مختلف مناطق إدلب وبقية المحافظات بسبب موقع المنطقة الحدودي وبعدها عن المعارك الدائرة وعدم وجودها ضمن المدى المُجدي لمدفعيات النظام البائد، ما جعلها الخيار الأفضل والأكثر أماناً للنازحين والتجار والباحثين عن الاستقرار والأمان.
لم يقتصر بقاء النازحين وحضورهم على داخل قرى الشمال وما صار يسمى بأريافها، فموجات الهجرة الضخمة والغزيرة لا يمكن استيعابها على حين غرة في بيوت الإيجار، فكان لا بد من التوجه إلى الجبال القريبة التي تحولت سريعاً إلى مخيمات واسعة شديدة الاكتظاظ حول القرى أو بالقرب منها، لكن مع ظروف المخيمات العسيرة كان قسم من سكانها يتوجه إلى القرى التي شهدت عمليات عمار وتوسعة غير مسبوقة، نظراً للحاجة المُلحة للسكن وقربها من معبر باب الهوى الحدودي الذي سيؤمن لها مواد البناء سريعاً وبسلاسة، وكذلك تفضيل النازحين الذين نووا الاستقرار بناء البيوت عوضاً عن السكنى في بيوت الإيجار التي وصلت إيجاراتها أعلى الأسعار التي تُحددها مكاتب العقارات على مستوى محافظة إدلب.
قبل انهيار تنظيم داعش في مناطق شمال شرقي سورية المُترعة بالنفط، وكذلك ما سبق قيام الفصائل وتركيا بعملياتها في مناطق شمال حلب، كانت الطرقات مفتوحة لقدوم النفط الخام إلى شمال إدلب الذي يحتاج إلى "حرّاقات" لفرز المُشتقات وبالطبع كانت شمال إدلب المستقرة والبعيدة عن مرامي النيران الخيار الأفضل للقيام بالأنشطة التجارية النفطية، وهو ما أسهم لفترة في زيادة الانتعاش التجاري في منطقة شمال إدلب وقراها.
أدت الظروف المتسارعة، من قصف النظام والعمليات العسكرية المستمرة، إلى اضطرابات متكررة في إمكانية التبادل التجاري مع المناطق التي كانت تحت سيطرته حتى انقطعت تماماً في فترات عديدة، وهو ما أدى إلى اعتماد التجار على المصدر القريب والمضمون (تركيا) عبر معبر باب الهوى الحدودي. بالإضافة للدور السياسي الذي لعبته تركيا في المنطقة ثم استبدال الليرة السورية بالتركية الذي سيلعب دوراً في زيادة تدفق البضائع التركية واعتماد أسواق إدلب عليها.
أدت السلاسة في دخول البضائع عبر الأراضي التركية إلى إدلب إلى انتعاش سوق مهم وغير مسبوق، وهو سوق السيارات الذي لطالما راود السوريين في أحلامهم، نظراً لسياسة النظام المخلوع في هيمنته على استيرادها ورفع ثمنها وتعقيدات التسجيل والترخيص والرسوم. كانت حاجة المنطقة المُلحة وسهولة الحصول على السيارة وانخفاض ثمنها عوامل لشيوع معارض السيارات، حتى تحول "دوار سرمدا الكبير" والأرصفة العامة إلى معارض سيارات ومراكز كبيرة لتجارتها امتدت حتى مدينة الدانا، لكن وصول "حكومة الإنقاذ" إلى إدارة إدلب منذ 2017 ألغى المعارض العشوائية وحوّلها إلى أماكن مخصصة ضمن مدن الشمال أو خارجها، لتكون تجارة السيارات عنصراً أساسياً في مسيرة ازدهار التجارة ومنطقة شمال إدلب.
بعد هزيمة النظام في "إدلب المدينة" 2015 وزيادة نفوذ فصائل الثوار، زاد النشاط التجاري في شمال المحافظة أكثر من السابق، نظراً لتوسع السوق وزيادة الحاجة للبضائع، حينها بدأت الحركة العمرانية بالانتقال إلى نماذج أكثر حداثة وصلت إلى بناء أحياء كاملة، مثل "حي القصور" القريب من سرمدا، مع هذا التضاعف التجاري برزت مدن الشمال كمناطق عبور مهمة للمسافرين الخارجين والعائدين من تركيا كاللاجئين المقيمين في تركيا وأوروبا أو سائقي الشاحنات وحركة التجار المستمرة، وهو ما جعل تلك المدن بمثابة نقطة انطلاق وعودة وتجمع للمستقبلين والمودعين ومكان لاستراحة المسافرين أو تجهزهم للسفر.
هذا الانتعاش التجاري الاستثنائي الذي شهدته المنطقة أدى لتوجه التجار إليها من مختلف المحافظات السورية. وفي حديث مع المحلل الاقتصادي أدهم قضيماتي لـ"العربي الجديد"، يوضح أن "المدن الشمالية في إدلب فترة الثورة كانت المحطة الأساسية لانطلاق السوق الحرة والتبادل التجاري الحر بين القطاعات المُتاحة هناك، لم يكن في المنطقة اكتفاء ذاتي من ناحية الصناعة، ما أدى لنشاط تجاري فائق، إذ ضمت المنطقة تجاراً جدداً نتيجة الظروف في عموم البلاد، ولم تكن المعابر الحدودية في شمال إدلب تفرض إتاوات على التجار في حين فرضت المعابر والموانئ الواقعة تحت سيطرة النظام المخلوع إتاوات متعددة وغير منضبطة، ما جعل معابر الشمال خياراً أفضل وأكثر أماناً"، مضيفاً: "عاشت منطقة شمال إدلب ظروفاً استثنائية فترة الثورة جعلتها تشهد نشاطاً تجارياً كبيراً، لكن تلك الظروف تغيّرت الآن، وقد تعود إلى حالتها الطبيعية ضمن الفترة القادمة، إذ أصبح الممكن للتجار إدخال بضائع من أي منفذ يريدون، وبما يناسب مصدر البضاعة ومكان وصولها".
مخاوف من تراجع دور إدلب التجاري والاقتصادي
ظلّت إدلب لسنوات سابقة منطقة ذات أهمية سياسية كبيرة، لما لعبته من دور كبير في تجمع المقاتلين الثوار، وكذلك لاعتبارها حاضنة ثورية تجمع فيها ملايين من نازحي الداخل السوري، لكن وبحسب مراقبين فإن هذا الشأن السياسي التي تقلدته المحافظة بدأ بالانخفاض بعد سقوط النظام وانتقال حكومة إدلب إلى دمشق وتغير الخريطة السورية، وهو ما سيعود على الأهمية التجارية لشمال المحافظة ومعبرها "باب الهوى"، فقد أصبح بإمكان التجار التنقل أو الاستقرار في أي من المحافظات المتاحة جنوباً وكذلك الساحل، وفي هذا الصدد يقول أدهم قضيماتي: "بعد السقوط النظام واستلام الحكومة الجديدة إدارة البلاد أصبحت جميع المعابر تتبع للحكومة وتخضع لقوانين واحدة، لكن لم تعد حركة التجارة العامة إلى عهدها السابق بعد.
لكن يجب أن نعلم أنه عند تراجع دور منطقة شمال إدلب تجارياً فهذا ليس بالضرورة أن ينعكس على التجار الذين أصبح بإمكانهم الرحيل والتوزع على الخريطة السورية، وكذلك تنوع أصول أولئك التجار الذي كوّنوا شبكة معارف واسعة".
بعد تشكيل الهيئة العامة للمعابر والمنافذ البحرية السورية أصبحت كل المعابر التي تصل إليها الحكومة الجديدة تُدار بقوانين واحدة، هذا ما يجعلها على قدم المساواة جميعاً، بما فيها معبر باب الهوى المميز بالنسبة للمنطقة التجارية في شمال إدلب، ما يزيد المخاوف لدى التجار بانخفاض الحركة التجارية. لم تعد تركيا هي المصدر الوحيد الذي تمر عبره البضائع لتُجار شمال المحافظة، فالآن تصل البضائع القادمة من لبنان والأردن وكذلك عبر الموانئ البحرية من مختلف دول العالم.
يُعد انفتاح المحافظات السورية على بعضها من جديد عاملاً مؤثراً على الحركة التجارية شمال إدلب، حيث سيلعب تجار حلب ودمشق دوراً إضافياً في المنافسة مع تجار شمال إدلب الذين لديهم مخاوف أيضاً من إلغاء التعامل بالليرة التركية والانتقال لليرة السورية التي ستكون لها تبعات عليهم. وكذلك تصريحات الحكومة بالانتقال إلى السوق الحرة كسياسة اقتصادية لعموم البلاد، ما سيؤثر على منطقة شمال إدلب التجارية التي كانت تتفرد بهذا السوق بالمقارنة مع المناطق التي كان يسيطر عليها النظام المخلوع.
ومع استمرار عودة النازحين من مخيمات الشمال وعموم محافظة إدلب، ما سيخفض كم البضائع التي تتطلبها المحافظة وعمليات الشراء والنشاط التجاري ويُنذر ببدء انقضاء الفترة الاستثنائية التي عاشتها المحافظة وشمالها الذي لم يشهد نشاطاً تجارياً من قبل، إذ أبقاها النظام المخلوع قرى هامشية بسيطة غير متطورة حتى شهدت محافظة إدلب الثورة السورية وطرد قوات النظام منها. ويضيف أدهم قضيماتي أن "المنطقة كانت مُهملة في عهد حكم النظام المخلوع، وكان ذلك مقصوداً كي لا تتطور، إذ عاشت المنطقة لسنوات بطريقة شبه بدائية ولم يكن لها أي نشاط تجاري، وهذه السياسة كانت متعمدة من النظام".
قبل عام 2011 لم تكن قرى شمال إدلب شائعة الصيت على مستوى المحافظة كما الآن، ويصف النازحون الذين قدموا إليها في وقت مبكر من الثورة السورية أن بيوتها كانت متفرقة ومرافقها العامة بالحد الأدنى ولا وجود لمراكز تجارية، باستثناء بعض المحال الصغيرة، إذ يصف عبد الحميد أبو يامن، وهو موزع تجاري لـ"العربي الجديد"، "في عام 2008 قررت الذهاب لأول مرة إلى شمال المحافظة لاستطلاع الأسواق، لم أكن أعرف أسماء القرى من قبل، كانت الحركة الشرائية ضعيفة ولم أكرر التجربة حتى 2016 حين ذهبت إلى سرمدا والدانا وأطمة لأرى زيادة فائقة في المباني وعدد السكان وازدحام الأسواق".
تُعد محافظة إدلب من أكثر المحافظات السورية تعرضاً للضرر الناتج عن الحرب، لكن مناطقها الشمالية الحدودية مع تركيا أعطتها قدراً من الاستقرار، لتنشط فيها التجارة إلى حد كبير وتُصبح منطقة تجارية مهمة يزدهر فيها العمران، لكن ثمة مخاوف من انخفاض النشاط التجاري بعد سقوط النظام والانفتاح على باقي المحافظات وقيام الدولة الجديدة.