هل أنجزت مصر تحوّلها السكاني أخيراً؟

هل أنجزت مصر تحوّلها السكاني أخيراً؟

16 اغسطس 2022
الفقر يتزايد في مصر ومؤسسات العون الإجتماعي تتدخل لحماية الفقراء (getty)
+ الخط -
شكوى دائمة تكاد تختزل فيها الحكومات المصرية المتعاقبة كامل مشكلة التنمية وأوضاع الفقر المتفاقمة في مصر، وهي مشكلة النمو السكاني الكلاسيكية، فبدءًا من مبارك بحديثه المتكرر عن الزيادة السكانية التي تلتهم ثمار النمو، وصولاً إلى السيسي بحديثه عن ضرورة خفض النمو السكاني إلى أربعمئة ألف نسمة سنويًا ليشعر الشعب بجهود الدولة، يظل المنطق واحدًا، وهو النظر في الاتجاه الخاطئ من المعادلة، بافتراض انفصال ذلك النمو عن مُجمل الأداء الاقتصادي، وكونه أقرب إلى "متغيّر خارجي" يخصم من ذلك الأداء كمّيًا لا غير، وليس "متغيّراً داخلياً" يعبّر بذاته عن نوعية ذلك الأداء ابتداءً.
أما المفارقة الغريبة فهي تاريخ مصر القديم مع سياسات خفض النمو السكاني، فمنذ الستينيات تقريبًا، بينما كان عدد سكان مصر بالكاد ثلاثين مليونًا، والحكومات المتعاقبة تتبنّى سياسات وبرامج رسمية لمعالجة هذه المشكلة دونما جدوى، حتى تجاوز عدد سكان مصر مئة مليون بحلول عام 2020، وفقط بدأ يظهر مؤخرًا انخفاض جدّي في معدل نموه، بانخفاضه إلى ما دون نسبة 2% سنويًا، فهل نجحت مصر أخيرًا في تحقيق ذلك الهدف، وإنجاز تحوّلها السكاني المتأخر؟
 

نمو مُتسارع حقًا!

بادئ ذي بدء، لا يمكن إنكار هذه الحقيقة المجردة، فمصر فعلاً تنتمي لمجموعة الدول الأعلى نموًا سكانيًا في العالم؛ حيث تجمع معدل نمو سكاني مرتفع مع عدد سكاني كبير كأساس لذلك المعدل؛ ما تكون محصلته نموًا ضخمًا متسارعًا؛ كانت نتيجته تضاعف عدد سكان مصر ثلاث مرات منذ عام 1897 وفقًا لتقديرات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء، وبينما تطلّبت المضاعفة الأولى 50 عامًا، تحققت الثانية خلال 29 عامًا، وكذلك فعلت الثالثة خلال 30 عامًا، ولا يزال المعدل مرتفعًا، بما بلغ حسب بعض التقديرات أربعة أضعاف نظيره بالدول المتقدمة، وبما بلغ معه، حسب ما قدّر أحد أعضاء مجلس النواب عدد مواليد مصر سنويًا، ما يعادل نصف مواليد كامل قارة أوروبا.
كما توقّع تقرير التوقعات السكانية العالمية الصادر عن الأمم المتحدة عام 2019 بلوغ عدد سكان مصر 121 مليون نسمة عام 2030، ثم 160 مليون عام 2050، وصولاً إلى 225 مليوناً بنهاية القرن، وهي أرقام مخيفة حقًا إذا استمر الاقتصاد المصري على مساره الحالي المأزوم فعليًا، ليس من اليوم فقط، بل من ثلاثة عقود على الأقل.
اقتصاد الناس
التحديثات الحية

وبالطبع لم يأت هذا النمو المتسارع من فراغ، فمن دون إغراق في التفاصيل، يمكن وصف ما تمر به مصر باعتباره نوعاً من "الاحتجاز الديموغرافي" في "المرحلة الثانية من مراحل النمو السكاني"، تلك المرحلة التي يستمر فيها معدل المواليد على نموه المرتفع، مقابل انخفاض معدل الوفيات؛ ما يكون صافيه تصاعدًا في معدل نمو السكان الصافي، وقد قدّم الدكتور رمزي زكي، رحمه الله، تفسيراً للانفجار السكاني الذي تعانيه الدول المتخلفة بصفة عامة، ومنها مصر، يربطه فيها بتخلّفها التنموي وبالتدخل الاستعماري فيها بآثاره، السلبية منها والإيجابية، فكانت "العوامل التي أدت إلى تخفيض معدل الوفيات من طبيعة خارجية، بينما العوامل التي أسهمت وما زالت تسهم في رفع معدل المواليد من طبيعة داخلية، فضلاً عن أن العوامل الخارجية ذات تأثير نشط في استمرار فاعلية العوامل الداخلية المؤدية لارتفاع معدل المواليد".

فقد "استطاعت الدول الرأسمالية أن تعمل، من خلال نشاطها داخل الدول المتخلفة، على تخفيض معدل الوفيات خلال فترة وجيزة، ولكنها عملت من ناحية أخرى وبنفس القوة على استغلال الدول المتخلفة وتطويق التطور فيها؛ ومن ثم الإبقاء على الظروف الاقتصادية والاجتماعية المُسببة لارتفاع معدل المواليد"، وهو ما يدعم أطروحات التغيّر الهيكلي عن الترابط البنيوي بين عمليات التصنيع والتحضّر والتحوّل السكاني، التي تشتبك فيما بينها لتصوغ في النهاية، في إطار من علاقة تأثير وتأثر جدلية، نمط النمو كمّيًا وكيفيًا.

 

بارقة أمل، أم نمط مختلف؟

مع ذلك، تظهر بعض البوادر الإيجابية، التي إن أُمكنت تنميتها والاستفادة منها؛ فيمكن أن تقلل ذلك المعدل، فحسب أرقام الجهاز المركزي للإحصاء على لسان الدكتور حسين عبد العزيز، المشرف العام على التعداد السكاني والاقتصادي بالجهاز، انخفض معدل الخصوبة للمرأة المصرية من متوسط ستة أطفال ونصف في الستينيات، إلى حوالي ثلاثة أطفال عام 2008، ليعاود الارتفاع إلى ثلاثة أطفال ونصف عام 2014، وهو ما يتوافق مع اتجاه معدل النمو السكاني للانخفاض من 3.5% أواسط السبعينيات إلى 1.8% أواسط العقد الأول من الألفية، ليعاود الارتفاع إلى أكثر من 2% حتى عام 2016، ثم بدأ في التراجع من وقتها منخفضًا إلى حوالي 1.7% عام 2020.

وهنا بدأ البعض بالحديث عن وصول مصر أخيرًا إلى مرحلة التراجع السكاني، أو إنجاز تحوّلها السكاني، ببدء انخفاض معدل المواليد ليلحق بنظيره الخاص بالوفيات؛ ومن ثم الدخول في المرحلة الثالثة من التحوّل السكاني، حيث ينخفض معدل نمو السكان، ويدخل البلد في مرحلة "الهبة الديموغرافية"، التي تتسم بغلبة السكان في سن العمل ما بين 15 و64 سنة على الهيكل السكاني، وانخفاض معدل الإعالة بانخفاض نسبة الأطفال وكبار السن فيه؛ ومن ثم ارتفاع معدل الادخار ومعه الاستثمار، كذا ارتفاع عَرض القوة العاملة الرخيصة، إلى آخر ما لكل ذلك من آثار اقتصادية إيجابية معروفة.

وكعادة المتفائلين العَجُولين، سارع أولئك المحللون بتفسير ذلك التراجع الأخير، بعد ذلك التوصيف الاختزالي، بمجموعة الأسباب التقليدية، المشهورة في الكتب المدرسية ونشرات الأمم المتحدة الدعائية، من ارتفاع مستوى التعليم والتحسّنات في أوضاع المرأة وارتفاع سن الزواج وتغيّر الثقافة الإنجابية... إلخ من أسباب نُجزم بمحدودية تأثيرها، وسوء تأويلها، في ضوء ما تكشفه أي نظرة تاريخية أبعد شأوًا وأعمق غورًا من ذلك التوصيف المتعجّل، فضلاً عن التحليل في ما وراء تلك الظواهر نفسها إن صحّت.
فبالرجوع في التاريخ قليلاً، وليس بعيدًا جدًا، فقط إلى أوائل الستينيات، والنظر في المحطات الرئيسية لمعدل النمو السكاني، نجد أنه رغم الاتجاه العام للانخفاض، فإنه انخفاض يغلب عليه الطابع الدوري أكثر بكثير من الهبوط العام، فبدءًا من 2.7% عام 1961، اتخذ المعدل موجةً هابطة إلى 2.2% عام 1974، ثم موجةً صاعدة وصلت إلى ذروتها عند ذات القمة السابقة 2.7% عام 1987، ليتخذ موجة هابطةً سريعة أولاً حتى 2% عام 1994، ثم متباطئة حتى 1.80% عام 2007، ليبدأ موجة صاعدة جديدة حتى 2.3% عام 2013، ويعاود من وقتها الهبوط حتى 1.9% عام 2021.
ويكشف هذا المسار لمعدل النمو السكاني المصري عن ثلاث ملاحظات أساسية:
الأولى: هي كما ذكرنا آنفًا، الطابع الدوري أكثر مما هو هبوطي لمعدل النمو السكاني؛ فهو أقرب لتقلّب ما بين الصعود والهبوط ضمن مسار عَرضي مستقر، أكثر مما هو اتجاه حقيقي ذي منحى هبوطي صريح.
الثانية: وجود نوع من الارتباط الدوري بالحالة الاقتصادية العامة في البلد ومدى استقرار أوضاع المعيشة والحالة السيكولوجية العامة المسيطرة على الشعب من جهة تفاؤل أو تشاؤم توقعاته بخصوص فرص الحياة والعمل الحالية والمستقبلية.
الثالثة: حتى ما يبدو هبوطاً في المعدل، يرجح أن يعكس أساسًا حالة الضعف العام في حالة الاقتصاد وفرص العمل ومستوى المعيشة، أكثر منه انخفاضًا في المعدل نفسه نوعيًا بسبب تغيّرات ديموغرافية حقيقية.
وما تكشفه كافة هذه الملاحظات، وفي مركزها دورية وتقلب معدل النمو السكاني، وليس انخفاضه كما يتصوّر ذلك التوصيف المتعجّل، هو أن الأداء الاقتصادي هو المتغيّر الحاسم في حركة ذلك المعدل طوال العقود الأربعة الماضية، وليس أي تحوّل ديموغرافي نوعي حقيقي في مستويات الخصوبة ومعدلات المواليد؛ لذلك فما الانخفاض الأخير في الواقع سوى عّرض لتدهور الحالة الاقتصادية وضغوط مستوى المعيشة كمتغيّر حاسم، بما يعنيه ذلك من أنه مع أول تحسّن في الأحوال الاقتصادية، سواء أكانل جوهرياً أم عّرضياً؛ فإن معدلات النمو السكاني، على الأرجح، ستعاود الارتفاع بموجة صعودية جديدة، سريعة في الغالب، تلغي المنافع العاجلة لذلك التحسّن، وتترك "التكوين الاقتصادي-الديموغرافي" في وضع أسوأ من سابقه، بحجم سكاني أكبر مع بناء اقتصادي لم يتغيّر نوعيًا على الأرجح.
ومما يرجّح هذا التفسير، أي كون السبب الأساسي لانخفاض معدل الخصوبة هو انخفاض صافي الزواجات كنتيجة لتدهور الحالة الاقتصادية، أكثر مما هو تغيّر السلوك الديموغرافي مُمثلاً في انخفاض معدل المواليد الحقيقي الخام، أي متوسط معدل المواليد لكل "امرأة متزوجة"، هو ما نراه في مصر من ارتفاع يكاد يكون غير مسبوق في أعداد غير المتزوجين من الشباب والشابات فوق الثلاثين عامًا، المترافقة مع انخفاض معدلات الزواجات الجديدة، وارتفاع معدلات الطلاق؛ أي انخفاض صافي الزواجات والأسر الفعلية القائمة، ما بات في حكم الظاهرة التي لا تحتاج لكثير بيان.
 
طلاب وشباب
التحديثات الحية

أوهام الطُرق المُختصرة:

لهذا من الضروري النظر بعمق أكثر في مسألة النمو السكاني، بعيدًا أولاً عن تصوّر جدوى الأساليب الثقافوية الدعوية المعزولة عن واقع وحاجات الناس، وخصوصًا الطبقات منخفضة الدخل الأعلى خصوبًة ونموًا، وثانيًا بعيدًا عن المعالجات الإفقارية، سواء المُتعمدة أو غير المُتعمدة، فهى لا ترتب على هذا الصعيد سوى آثار عابرة، سُرعان ما تنقلب بمزيد من النمو السكاني في المستقبل؛ بسبب تعزيزها لحاجات الإنجاب لدى الطبقات مُنخفضة الدخل، المرتبطة أساسًا بعمالة الأطفال وبدورهم المستقبلي كتأمين اجتماعي بديل لما لا تقدمه الدولة ولا يوفّره الاقتصاد المُعتلّ، وثالثًا، وأخيرًا حتى نعود للمسألة في مناسبة أخرى، التركيز على المعالجة الهيكلية لجوهر الأزمة التنموية المصرية المتمثلة في تخلّف بنيانها الاقتصادي والاجتماعي، كمهمتنا التاريخية الأساسية غير المُنجزة، والتي ستجرّ خلفها كافة التحوّلات التقدمية المرغوبة لبلد متخلف، والتي لا يمثل "التحوّل السكاني" سوى أحد نتائجها ومظاهرها، لا هدفًا أساسيًا لها أو حتى وسيلةً حاسمة لتحقيقها.

المساهمون