نيويورك التي لا نعرفها... تشرد وتسول ومخدرات وجوع

نيويورك التي لا نعرفها... تشرد وتسول ومخدرات وجوع

02 يونيو 2021
المشردون ينتشرون في شوارع نيويورك (Getty)
+ الخط -

زرت مدينة نيويورك قبل ثلاثة أسابيع، وجدت أنها مدينة عصرية مبهجة، أكثر حركة وحيوية من غيرها من المدن الأميركية، ساحرة لا تنام، جاذبة كحسناوات هوليود، مرتفعة الأسعار، غالية من حيث تكاليف المعيشة، مزدحمة رغم استمرار المخاوف المتعلقة بفيروس كورونا، متنوعة الأعراق والجنسيات، بها زحام مروري ملحوظ لا تخطئه عين المارة في الشوارع والميادين العامة، سكانها هادئون عكس ما يروج في الأفلام والإعلام.
تضم الآلاف من الناطحات التي تعانق السماء وتخترق السحب العالية، يحرسها تمثال الحرية، ورغم أمطارها الغزيرة وبردها القاسي، خاصة في شهري يناير وفبراير من كل عام، إلا أن بنوكها وقطاعها المالي والمصرفي ملئ بأموال كبار المليارديرات حول العالم التي تجعلها دافئة وثرية طوال العالم.
نيويورك بها أكبر الموانئ وأكثرها ازدحاما في العالم، وبها واحد من أكثر مطارات العالم ازدحاما، مطار جون كيندي، عمر مترو الانفاق بالمدينة الصاخبة يفوق أعمار دول كثيرة، فقد تم افتتاحه في العام 1904، ليعد بذلك أحد أقدم أنظمة النقل العام في العالم.
بها حديقة، سنترال بارك، وهي واحدة من أكبر الحدائق في العالم حيث تبلغ مساحتها 3.4 كم²، وتستقبل حوالي 37.5 مليون زائر سنوياً، كما تضم المدينة متاحف ضخمة مثل المتروبوليتان للفنون، ومتحف الفن الحديث، والمتحف الأميركي للتاريخ الطبيعي وغيرها.
لكن في المقابل، لفت نظري انتشار ظواهر اجتماعية خطيرة في شوارع نيويورك لم أكن أتوقع وجودها في واحدة من أهم المراكز المالية الضخمة حول العالم، وداخل المدينة التي تضم حي "وول ستريت المالي الشهير، كما تضم عدد من مقار البنوك والشركات والفنادق العالمية الكبرى، وناطحات السحاب.

موقف
التحديثات الحية

من أبرز هذه الظواهر انتشار حالات التشرد والتسول والفقر والجوع، وأحيانا بيع المخدرات كما شاهدت بنفسي في ميدان "تايم سكوير" وهو واحد من أشهر ميادين المدينة المكتظة.
ربما تفشي وباء كورونا وفقدان ملايين الأميركيين وظائفهم كان السبب الرئيسي وراء تنامي هذه الظواهر السلبية، ولولا حزم الإنقاذ الضخمة التي ضختها الحكومة الأميركية منذ تفشي الوباء وتجاوزت قيمتها 5800 مليار دولار لفقد معظم الأميركيين وظائفهم ودخولهم، وزادت معدلات التشرد والبطالة والفقر وغيرها من الظواهر السلبية الموجودة منذ سنوات طويلة في المدن والولايات المختلفة ومنها عاصمة الولايات المتحدة المالية، لكنها تفاقمت في أخر عامين.
أسفل مقار وفروع بنوك عالمية كبرى ومعروفة مثل سيتي بنك وبنك أوف أميركا وتشيس منهاتن وغيرها تشاهد مئات المشردين ينامون في شوارع نيويورك الفارهة مفترشين الأرصفة وأحيانا بلا غطاء رغم المطر الذي كان ينهمر علينا في منتصف شهر مايو.
يتكرر الأمر ويزداد العدد أمام محطات التلفاز الشهيرة، وفي الحدائق والمتنزهات العامة وداخل محطات المترو والمواصلات، كما تزداد الظاهرة على أطراف المدينة وفي المناطق العشوائية.

وزارة الإسكان الأميركية، تقدر عدد المشردين في نيويورك وحدها بنحو 78.67 ألف شخصا في تقرير أصدرته العام 2018، كما تعيش ما لا يقل عن 1523 أسرة في شوارع نيويورك

أعداد المشردين في نيويورك ضخمة لدرجة قد تزعج السياح والمارة والمترددين على المحال والمواصلات العامة والمؤسسات المالية والفنادق والمتنزهات وغيرها.
إذ إن وزارة الإسكان الأميركية، تقدر عدد السكان المشردين في نيويورك وحدها بنحو 78.67 ألف شخصا في تقرير أصدرته العام 2018، كما تعيش ما لا يقل عن 1523 أسرة في شوارع نيويورك، في حين تقدر سلطات المدينة عدد المشردين المقيمين في شوارع نيويورك منذ سنوات عدة بنحو 4 آلاف شخص. 
كما يتم استقبال نحو 60 ألف شخص من بينهم 21640 طفلا يوميا في مراكز إيواء في كبرى مدن الولايات المتحدة أي بزيادة قدرها 10 آلاف شخص مقارنة بالعام 2013.
لكن الواقع يقول إن أرقام المشردين الحقيقية في نيويورك تزيد عن الأرقام الرسمية خاصة مع زيادة الأعداد منذ تفشي وباء كورونا بداية العام 2020، وانشغال الحكومات بمكافحة الوباء والحفاظ على الصحة العامة، والحيلولة دون انهيار المؤسسات الاقتصادية والشركات وسوق العمل وقطاع الإنتاج.

ظاهرة التشرد في المدينة الأميركية الضخمة غير قاصرة على كبار السن والرجال، بل تمتد للسيدات والشباب وحتى الأطفال، فالشوارع تضم خليط من كل هؤلاء.
ورغم وعود حكومة الولاية بالقضاء على ظاهرة التشرد في العام 2024 وتوفير نحو ألف سرير للمشردين في الشوارع، إلا أن تنفيذ هذه الخطة يظل صعبا في ظل انشغال الجهات الرسمية بمواجهة تداعيات الفيروس الخطيرة والذي انتشر بنيويورك بمعدلات أكبر من الولايات الأخرى في بعض الأوقات. 

النظام الرأسمالي الظالم والليبرالية المتوحشة التي تتبناها الولايات المتحدة جعلت آلاف المشردين يحتلون شوارع العاصمة المالية الأولى في العالم

يتكرر مشهد التشرد مع حالات التسول التي تزداد في نيويورك خاصة عند إشارات المرور وعلى نواصي الطرقات وبالقرب من الفنادق، صحيح أن أغلب المتسولين لا يضايقون المارة ويبتكرون أساليب مختلفة لانتزاع المساعدات والدولارات، لكن تظل الظاهرة مزعجة، خاصة مع استخدام أسلوب الإلحاح والملاحقة أثناء التسول.
الديون والفقر وارتفاع تكلفة المعيشة وعدم وجود مساكن بأسعار مناسبة والإخلاء وفقدان الوظائف والمساكن المكتظة والعنف المنزلي والسكن الخطير، هي كلها عوامل تدفع عشرات الآلاف من الأميركيين نحو التشرد والسكن في شوارع نيويورك وغيرها من المدن الكبرى.

لكن السبب الأخطر في ذلك من وجهة نظري هو النظام الرأسمالي الظالم الذي يتبناه الاقتصاد الأميركي منذ عقود، والنيوليبرالية المتوحشة التي تتبناها حكومات الولايات المتحدة والتي جعلت آلاف المشردين يحتلون شوارع العاصمة المالية الأولى في العالم.

المساهمون