نموذج تعذيب اللبنانيين بتذكرة سفر

03 ديسمبر 2024
مسافرون في مطار رفيق الحريري الدولي في بيروت، 25 أغسطس 2024 (الأناضول)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- تفرض شركة طيران الشرق الأوسط أسعار تذاكر مرتفعة تصل إلى ألف دولار، مما يثقل كاهل المغتربين الراغبين في العودة إلى لبنان، ويعكس سياسة الاحتكار المدعومة من مصرف لبنان.

- حققت الشركة أرباحاً ضخمة تم تحويل معظمها إلى مصرف لبنان، مما يعكس استغلال اللبنانيين عبر أسعار التذاكر المرتفعة لضخ العملة الصعبة في النظام الفاسد.

- ارتفاع أسعار التذاكر وغياب الخدمات الأساسية يرسخ صورة لبنان كوجهة غير جذابة، مما يفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية ويزيد من معاناة المواطنين.

تسلط أسعار تذاكر الرحلات إلى لبنان عبر شركة طيران الشرق الأوسط الضوء مجدداً على كيفية النظر إلى المغتربين اللبنانيين على أنهم صراف آلي تعتمد عليه السلطة المافياوية والمليشياوية في لبنان لتمويل الاقتصاد المنهوب وضمان استمراريتها. كُتب الكثير عن هذه القضية، وفي كل مرة كانت هناك مناسبة للبحث والتحليل، إلا أن هذه المرة مختلفة من حيث الجوهر والرمزية.

وسعت إسرائيل حربها ضد لبنان في سبتمبر/ أيلول الماضي، وعاثت قصفاً وتدميراً واعتداءً في الكثير من المناطق، من الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت، وصولاً إلى الشمال والجبل وبيروت الإدارية. وفي كل منزل تقريباً في لبنان مغترب واحد على الأقل، وهذه الفئة عاشت خلال فترة الحرب قلقاً مضاعفاً، حيث كانت أسرهم تحت الاستهداف أو في دائرة الخطر اليومي. وبطبيعة الحال، كانت غالبية هؤلاء تنتظر اللحظة التي يتم فيها إعلان وقف إطلاق النار للعودة إلى لبنان والاطمئنان على عائلاتهم ومساعدتها في لملمة جراحها، والمساعدة في إعادة ترميم البيوت وأقلّه أن يكونوا مع أسرهم التي كانت مهددة بالموت والأذى. إلا أن السلطة اللبنانية من جديد، استغلت المأساة لصالحها، إذ لا يقل سعر تذكرة السفر الواحدة عن ألف دولار أميركي، ما يعني الآلاف من الدولارات التي يجب على أفراد الأسر المغتربة دفعها للعودة إلى بلدهم الأم.

وشركة طيران الشرق الأوسط يملك حصة الغالبية فيها مصرف لبنان المركزي، بما يوازي 99% من الأسهم. وهي تحتكر الأجواء اللبنانية منذ ما قبل انتهاء الحرب الأهلية، حيث لا يمكن إنشاء أي شركة محلية أخرى لمنافستها. لا بل إن الحمائية السياسية والاقتصادية التي تتمتع بها شركة طيران الشرق الأوسط تمنع الأجواء اللبنانية عن الشركات منخفضة التكلفة التي يمكن أن تسيّر رحلات من مختلف أنحاء العالم إلى لبنان بأسعار زهيدة، على الرغم من التزام لبنان سياسة الأجواء المفتوحة منذ أكثر من 23 عاماً.

وبغض النظر عن العديد من التقارير التي تحدثت عن الفساد الذي ينخر الشركة، سواء في إدارة الشركة الأم أو في تشغيل الشركات الرديفة داخل المطار التابعة لطيران الشرق الأوسط، وبعيداً عن التقارير التي أشارت إلى تحويل الشركة إلى مرتع للتوظيف السياسي وتقاسم المنافع والصفقات التي كتب عنها الكثير خلال السنوات الماضية، فإن طيران الشرق الأوسط تستخدم التذاكر التي تبيعها بأسعار مضاعفة في السلم كما في الحرب، لضخ الدولارات في المنظومة.

فقد حققت الشركة ربحاً بقيمة 1.7 مليار دولار عن الفترة الممتدة من 1991 ولغاية 2021، وفق البيانات المالية المنشورة على الموقع الإلكتروني للشركة، تم تحويل غالبيتها إلى مصرف لبنان كونه يملك حصة الأسد في الأسهم، يضاف إليها 54.5 مليون دولار تم تحقيقها في عام 2022، والرقم ذاته في العام 2023، وقد تم تحويل هذه الأرباح إلى مصرف لبنان كذلك، وفقاً لـ "الدولية للمعلومات". وهكذا تصبح المعادلة أن اللبنانيين المنهوبين، الذين تحتجز المصارف أموالهم، والذين يعانون فساد حامي زعماء النهب الحاكم السابق لمصرف لبنان رياض سلامة، والذين هاجر العديد منهم بسبب الأزمة الاقتصادية في العام 2019 بعدما انكشفت عملية السرقة الكبرى، هؤلاء ذاتهم يمولون مصرف لبنان بأسعار تذاكر مجحفة مدعومة باحتكار غير مبرر للأجواء اللبنانية.

واقع يبرر الصمت لا بل التشجيع الرسمي لرفع أسعار التذاكر لتوفير العملة الصعبة بطريقة سهلة، ومن دون دراسة الآثار الاقتصادية والاجتماعية التي يسببها هذا القرار. إذ إن هدف السلطة المليشيوية والمافيوية هو دائماً توفير استمراريتها، على حساب مصلحة المواطنين. حيث إن منع الكثير من الشركات منخفضة التكلفة من الدخول إلى لبنان، يحرم البلد من الآلاف من السياح الذين قد يزورون لبنان وينفقون ملايين الدولارات في السوق، مما يعني توفير مصادر دخل للمواطنين، ومواطن شغل جديدة في القطاع السياحي والخدمي وحتى الاستشفائي والصناعي والزراعي.

كما أن رفع تذاكر الطيران على المغتربين تحديداً، يقلل من ميزانية الإنفاق المتواضعة عادة التي يحددها هؤلاء لشراء السلع والخدمات، إذ إن الفارق ما بين سعر التذكرة المعقول والسعر المفروض من قبل طيران الشرق الأوسط كان من الممكن أن يتم إنفاقه على الاستهلاك المحلي، ما يعني استفادة عامة الناس من هذه الأموال بدلاً من تحويلها إلى مصرف لبنان. فيما يؤدي غياب الشركات قليلة التكلفة ورفع التذاكر في المقابل من قبل طيران الشرق الأوسط إلى ترسيخ صورة لبنان بلداً طارداً للسياح على المدى الطويل، ما يجعله خارج الخطط السنوية والترويجية لشركات السفريات العربية والأجنبية.

موقف
التحديثات الحية

وكل ذلك، يأتي ممزوجاً بكارثة غياب الخدمات، حيث لا كهرباء ولا مياه نظيفة ولا طرقات معبدة ولا إنترنت متواصلاً ولا اتصالات زهيدة ولا اهتمام بالمناطق السياحية، ولا توافر لأي من المقومات التي تبرر ارتفاع كلفة المكوث في لبنان، وبطبيعة الحال كل هذه النواقص ليست قدراً، إذ إن السلطة المافيوية ذاتها رسختها بالفساد والصفقات والنهب المتواصل للقطاعات التي من المفترض أن توفر هذه الخدمات.

أما اليوم، بعد توقف إطلاق النار، فإن أثر هذه السياسات أكبر بكثير من السابق. اللبنانيون في الداخل متعطشون للعودة إلى الإنتاج وتوفير مصادر دخل بعد خسارة البيوت والوظائف. الاقتصاد يحتاج إلى ضخ العملة الصعبة في شرايينه ليسترجع بعض الحياة. لكن هناك من لا ينظر إلى المواطنين بشراً، ولا يكترث بخطط اقتصادية وتنموية قد يكون سعر التذكرة فيها جزءاً بسيطاً من الحل. أما على الصعيد الإنساني، فحرمان المغتربين من حق الالتحاق بأسرهم بعد حرب دموية، لا يشبه سوى هذه السلطة، التي تمارس على الشعب اللبناني كل أنواع التعذيب، سرقة وقتلاً وتجويعاً وإذلالاً.

المغتربون ليسوا "منتشرين"، كما طاب للوزير جبران باسيل يوماً ما بأن يلقبهم، نازعاً عن رحيلهم صفة الإرغام والتهجير القسري بسبب فساد السلطة وسياساتها الفاشلة، هؤلاء بعدد كبير منهم يعيش في غرف صغيرة، ويتقاضون رواتب زهيدة، مقابل القليل من الحياة خارج بلد القهر اليومي، و"تحويلاتهم" التي تقدر بسبعة مليارات دولار سنوياً، يمكن أن تستخدم آلية لزيادة رفاهية أسرهم، لا لتوفير حاجياتها المعيشية الأساسية في بلد ينتقل من أزمة إلى أخرى أكثر قسوة عاماً بعد عام.

المساهمون