من جذور إسكندرانية إلى نوبل..فيليب أغيون ورحلة الابتكار والنمو

16 أكتوبر 2025   |  آخر تحديث: 11:23 (توقيت القدس)
فيليب أغيون الحائز على نوبل للاقتصاد 2025، باريس 13 نوفمبر 2025 (تيريزا سواريز /فرانس برس)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- فليب أغيون يفوز بجائزة نوبل للاقتصاد 2025: حصل أغيون على الجائزة بالاشتراك مع جويل موكير وبيتر هاويت لشرحهم النمو الاقتصادي القائم على الابتكار، مما يعزز مكانة نموذج "النمو عبر التدمير الخلاق" في علم الاقتصاد المعاصر.

- الإسكندرية وتأثيرها على أغيون: نشأ أغيون في بيئة متعددة الثقافات في الإسكندرية، مما أثر على رؤيته للحرية وكسر القوالب، وتابع مسيرته الأكاديمية في جامعات مرموقة مثل هارفرد ومعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا.

- مواقف أغيون السياسية: دعا أغيون إلى تعليق إصلاح التقاعد في فرنسا حتى انتخابات 2027 لتخفيف الاحتقان، وأبدى تحفظه على "ضريبة زوكمان" المقترحة، مؤكداً على أهمية صون بيئة الابتكار والاستثمار.

في صباحٍ بارد من أكتوبر، تلقى الاقتصادي الفرنسي فليب أغيون مكالمة غير متوقعة من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم: "تهانينا، لقد نلت جائزة نوبل للاقتصاد". في لحظة واحدة، تحول الأستاذ الهادئ الذي كرس حياته لفهم أثر الابتكار في النمو إلى أيقونة فكرية عالمية.
كان صباح ستوكهولم هادئا حين التقط فيليب أغيون الهاتف. على الطرف الآخر، صوت هادئ ومفعم بالوقار: آدم سميث، كبير المسؤولين العلميين في مبادرة نوبل للتوعية، يخبره بكلمتين اختصرتا مسيرة عمر:
"ألو فيليب، أنا آدم سميث من الأكاديمية الملكية السويدية للعلوم... تهانينا".
كلمتان خفيفتان كانتا كافيتين لوضع أغيون ضمن القائمة الذهبية لأصحاب نوبل للاقتصاد لعام 2025. لم يكن يتوقعها، بل كان على يقين أن الجائزة ستذهب لغيره، خاصة أنه نال قبل أسبوعين فقط درجة فخرية من جامعة ستوكهولم، فظن أن "التكريم الواحد يكفي لعام واحد". لكن المفاجأة وقعت، الأكاديمية قررت أن تمنح جائزة نوبل في العلوم الاقتصادية له بالاشتراك مع جويل موكير وبيتر هاويت، "لشرحهم النمو الاقتصادي القائم على الابتكار". قسمت الجائزة مناصفة بين موكير من جهة، وأغيون وهاويت من جهة أخرى. هكذا وضعت نظرية "النمو عبر التدمير الخلاق"» رسميا في قلب علم الاقتصاد الحديث.

جذور من الإسكندرية وروح من المتوسط

قبل باريس وهارفرد، هناك قصة بدأت في الإسكندرية. في تلك المدينة ولدت والدته غابي أغيون عام 1921، المؤسسة اللاحقة لدار كلويه للأزياء الفرنسية. أما والده ريمون أغيون فكان من عائلة إيطالية مصرية مثقفة. عاش الوالدان في الإسكندرية حتى عام 1945، ثم غادرا إلى باريس بعد الحرب العالمية الثانية.
لم يعش فيليب نفسه في المدينة، لكنه نشأ على حكاياتها، نشأ على مزيج البحر والحرية والتنوع، والناس الذين يعيشون بين العربية والفرنسية والإيطالية بلا حواجز. ذلك الجو المتوسطي المفتوح شكل مبكرا حسه بالانفتاح الفكري، وبأن "الاختلاف يولّد الإبداع". وكأن الإسكندرية لم تفارقه، حتى وهو يشرح في محاضراته اليوم كيف يولد الجديد من تفاعل العوالم المتقابلة.

بين الأرقام والأفكار

درس فليب الرياضيات أولا في معهد المدرسة العليا العادية بساكليه في باريس، قبل أن ينتقل إلى سوربون ليتخصص في الاقتصاد الرياضي. الرياضيات منحته الدقة والمنهج، والاقتصاد أعطاه المعنى الإنساني. ومنذ تلك المرحلة بدأ سؤاله الجوهري: كيف يمكن تحويل الابتكار إلى محرك للنمو من دون أن يكون على حساب العدالة الاجتماعية؟
بعدها شدّ الرحال إلى جامعة هارفرد في الولايات المتحدة، حيث نال الدكتوراه عام 1987. وهناك، في قلب كامبريدج، تفتحت أمامه مدارس الاقتصاد الحديثة. عمل باحثا في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا، ثم في كلية يونيفرسيتي كوليدج بلندن فكلية هارفرد، قبل أن يعود إلى فرنسا أستاذا في كلية "كوليج دو فرانس"، وكلية إنسياد، وزائرا في كلية لندن للاقتصاد.

لحظة التأسيس

المنعطف الكبير في مسيرته كان عام 1992، حين تعاون مع بيتر هاويت على نشر ورقة علمية بعنوان "النمو عبر التدمير الخلاق" في الجريدة الإقتصادية الأكاديمية "إيكونومتريكا". كانت الورقة بمثابة صدمة علمية جميلة، النمو الاقتصادي لا يعتمد فقط على تراكم رأس المال والعمل، بل على سلسلة من الابتكارات المستمرة. فكل ابتكار يدخل شيئا جديدا ويزيح ما قبله، وهذه العملية رغم ألمها هي التي تبقي الاقتصاد حيا ومتحركا. وفي نموذج أغيون وهاويت، التكنولوجيا ليست هدية تسقط من السماء، بل ثمرة لجهد بشري ومنافسة داخل الاقتصاد نفسه. لذا، فكل سياسة تمنع المنافسة أو تقفل الأبواب أمام الداخلين الجدد، تطفئ شرارة التقدم.

بين النظرية والسياسة

لم يكن أغيون اقتصاديا منعزلا عن العالم الواقعي. في المقابلات التي تلت الإعلان عن نوبل، تحدث بلغة بسيطة: "المجتمعات تحتاج إلى منافسة عادلة لا تحتكرها جماعات المصالح، وسياسات صناعية ذكية تحفز الابتكار، وشبكات أمان اجتماعي تساعد من يفقدون وظائفهم على الانتقال إلى فرص جديدة". كان يشير بذلك إلى تجربة الدنمارك في ما يعرف بـ"المرونة المؤمنة"، أي نظام يعوض العاطلين مؤقتا ويدربهم لإيجاد وظائف جديدة، بدل تركهم ضحايا لآلة التغيير. هذا التوازن بين الحرية الاقتصادية والحماية الاجتماعية هو جوهر رؤيته.

 

 

الحلم الذي لم يتوقف

فيليب أغيون لم ير في الجائزة نهاية مسار، بل مسؤولية جديدة. لطالما حلم ببناء اقتصاد "أكثر إنصافا وابتكارا"، وكرس جزءا من أبحاثه الأخيرة لدراسة الذكاء الاصطناعي التوليدي وتأثيره على الإنتاجية والعمل، ضمن لجنة علمية شارك في رئاستها منذ عام 2023. أما طلابه فيصفونه بالأستاذ الذي يبدأ محاضراته بجملة متكررة: "الاقتصاد ليس حسابا للأرقام، بل بحث عن شروط الكرامة في العمل والابتكار".

من ستوكهولم إلى باريس..

في باريس، حيث يستمر الجدل حول مشروع موازنة 2026، لم يتخذ أغيون مسافة الحياد. فقد دعا إلى تعليق إصلاح التقاعد حتى انتخابات 2027 لتهدئة التوترات الاجتماعية، وأبدى تحفظه على "ضريبة زوكمان" التي تطال الثروات الكبرى، معتبرا أنها قد تضر بالمناخ الاستثماري. بالنسبة له، لا يمكن فرض ضرائب على أدوات العمل نفسها، بل يجب تصميم سياسات تراعي الابتكار وتوسّع قاعدته. موقفه هذا أعاد التأكيد على خط ثابت في شخصيته، الأكاديمي الذي يفكر كصانع سياسات، والباحث الذي يرى في النموّ الاقتصادي وسيلة لتوسيع الفرص لا لتكريس الفوارق.

المساهمون