ممداني يهز عرش الرأسمالية... ماذا يعني فوزه لاقتصاد نيويورك؟
استمع إلى الملخص
- تواجه نيويورك تحديات في توزيع الثروة وتكلفة المعيشة، مع ارتفاع الإيجارات في مانهاتن. يعتمد اقتصاد المدينة على القطاعات المالية والصحية والتقنية والعقارية، وأي تغيير في السياسات قد يؤثر على سوق المال والعقار والوظائف.
- تتطلب سياسات ممداني تمويلاً كبيراً، مما يثير تساؤلات حول تحقيق الأهداف دون الإضرار بجاذبية الاستثمار. يتطلب ذلك تعاوناً بين العمدة وقطاع الأعمال لتحقيق توازن بين كلفة المعيشة والاستثمار.
أثار فوز زهران ممداني بمنصب عمدة مدينة نيويورك، اليوم الأربعاء، موجة من الجدل داخل الأوساط الاقتصادية والمالية، إذ رأى كثير من المراقبين أن هذا الفوز قد يفتح الباب أمام تحول أيديولوجي غير مسبوق في العاصمة المالية للعالم. ووفقاً لوكالة رويترز، فإن قادة الأعمال في نيويورك أعربوا عن قلقهم من توجهات ممداني الاقتصادية التي تعد بـ"تجميد الإيجارات في جميع الوحدات السكنية الخاضعة للتنظيم، وتوسيع برامج النقل المجاني والدعم الغذائي"، وهي سياسات وصفها بعض المستثمرين بأنها قد تضعف القدرة التنافسية للمدينة وتزيد الأعباء الضريبية على الشركات.
وأشارت الوكالة إلى أن أسهم عدد من المصارف وشركات الاستثمار العقاري في نيويورك شهدت تراجعا ملحوظا فور إعلان تقدم ممداني في النتائج الأولية، حيث هبطت أسهم بنك فلاغستار بنسبة قاربت 4%، وتراجعت قيمة شركات الاستثمار العقاري الكبرى مثل سل غرين وفورنادو ريالتي بنحو 5% في يوم واحد، في إشارة واضحة إلى حساسية الأسواق تجاه أي سياسات محتملة قد تمس قطاع العقارات والإيجارات. ونقلت الوكالة عن محللين في أسواق المال قولهم إن فوز ممداني يمثل لحظة فارقة في توازن القوى داخل الاقتصاد المحلي للمدينة، إذ يعتبر أول سياسي من التيار الاشتراكي الديمقراطي يفوز بإدارة مدينة تعد موطنا لبورصة نيويورك ومركزا رئيسيا للشركات متعددة الجنسيات. وعلق أحد مديري صناديق التحوط بالقول: "إنها مفارقة لافتة أن يفوز سياسي اشتراكي في المدينة التي تقوم عليها الرأسمالية الحديثة".
وترافق فوز ممداني مع تصاعد القلق في أوساط المالكين والمستثمرين العقاريين الذين اعتبروا، بحسب رويترز، أن تجميد الإيجارات لأربع سنوات سيؤدي إلى تآكل البنية التحتية للمباني السكنية بسبب انخفاض العائدات وضعف القدرة على تغطية تكاليف الصيانة، بينما رأى آخرون أن هذه الخطوة قد تعيد التوازن الاجتماعي في مدينة تعاني فجوة متزايدة بين الأغنياء والفقراء. ويرى مراقبون أن هذا التحول السياسي يعكس حالة السخط الشعبي المتصاعدة من ارتفاع تكاليف المعيشة وأسعار الإيجارات القياسية في مانهاتن التي تجاوز متوسطها أربعة آلاف وخمسمئة دولار شهريا، وفق تقديرات شركات العقارات المحلية التي نقلتها رويترز في تقاريرها، مشيرين إلى أن البرنامج الانتخابي لممداني لامس هموم المواطنين الذين يشعرون بأن المدينة تحوّلت إلى مساحة للأثرياء فقط. وبينما ينظر إلى فوز ممداني بوصفه انتصارا رمزيا لحركة العدالة الاقتصادية، فإن أوساط المال في وول ستريت تعتبره "جرس إنذار" لما يمكن أن يشهده مركز المال الأميركي من تغير في فلسفة الحكم المحلي. وقال محللون إن الأيام الأولى من ولايته، ستكون اختبارا دقيقا لعلاقته بقطاع الأعمال وقدرته على طمأنة الأسواق دون التراجع عن وعوده الاجتماعية.
اقتصاد نيويورك
تعد نيويورك المحرك المالي الأول في الولايات المتحدة بإجمالي ناتج محلي يتجاوز تريليون دولار سنويا، وتضم أكثر من 10 ملايين وظيفة على مستوى المنطقة الحضرية بحسب مكتب إحصاءات العمل الأميركي، أي ما يعادل قرابة 6% من إجمالي الوظائف في الاقتصاد الأميركي. ووفقا لتقرير "NYCEDC" الصادر في سبتمبر/أيلول 2025، بلغ عدد العاملين في القطاع الخاص بالمدينة نحو 4.26 ملايين عامل حتى أغسطس/آب الماضي، بينما وصل العدد الإجمالي مع القطاع الحكومي إلى 4.9 ملايين، بزيادة سنوية قدرها 2%. ورغم فقدان 4500 وظيفة خاصة في أغسطس، فإن المدينة أضافت خلال الأشهر الثمانية الأولى من العام 14.300 وظيفة مقارنة بـ 75000 في الفترة نفسها من 2024، ما يعكس تباطؤا واضحا في وتيرة النمو.
ويقوم اقتصاد نيويورك على أربعة أعمدة أساسية، هما: القطاع المالي الذي يوظف 370 ألف شخص، لكنه شهد تراجعا سنويا بنسبة 2% بسبب تشديد الائتمان وتباطؤ الإصدارات الاستثمارية. والقطاع الصحي والاجتماعي وهو الأسرع نموا، إذ أضاف 46.9 ألف وظيفة منذ مطلع العام بفضل التوسع في خدمات الرعاية والتمريض. والقطاع المعلوماتي والتقني الذي سجل نموا 4.8%، مع ارتفاع التمويل الاستثماري إلى 6.1 مليارات دولار في الربع الثاني من 2025، بزيادة 36% عن الربع السابق. والقطاع العقاري والبناء الذي يعاني من ركود نسبي؛ إذ انخفضت الوظائف فيه 5.4% على أساس سنوي وبلغ معدل الشواغر المكتبية 14.3%، بينما وصلت الإيجارات السكنية إلى أعلى مستوياتها في التاريخ الحديث بزيادة 5.3% سنويا.
كما تظهر بيانات التقرير أن معدل المشاركة في القوى العاملة بلغ 61.7% في أغسطس/آب 2025، أي قريب من أعلى مستوياته التاريخية، فيما استقر معدل البطالة عند 4.9% بعد أن كان 5.6% مطلع العام. وارتفع الإنفاق الاستهلاكي المحلي مدفوعا بزيادة مرتبات العاملين في القطاعات الخدمية، في حين حافظت السياحة على تعاف قوي مع وصول إشغال الفنادق إلى 95.7% من مستويات ما قبل الجائحة، وارتفاع إيرادات برودواي 4.7% سنويا. وتبرز هذه المؤشرات أن اقتصاد نيويورك يعمل في منظومة مركبة تجمع بين قوة التمويل، وتنوع الخدمات، واعتماد كبير على العقارات والسياحة، مما يجعل أي تحول في سياسات السكن أو الضرائب (مثل تلك التي يقترحها ممداني) ذا أثر مباشر في كل من سوق المال والعقار والوظائف على السواء.
تحديات متراكمة
ورغم هذا الثراء المالي، تواجه نيويورك تحديات متراكمة في توزيع الثروة وتكلفة المعيشة. فوفقا لبيانات مكتب ميزانية المدينة، ارتفع متوسط الإيجار في مانهاتن إلى أكثر من أربعة آلاف وخمسمئة دولار شهريا في منتصف عام 2025، وهو الأعلى في تاريخها، بينما يعيش أكثر من أربعين في المئة من سكانها في حالة من الضغط المالي المزمن بسبب ارتفاع تكاليف السكن والنقل والرعاية الصحية. كما أشار تقرير للبنك الفيدرالي إلى أن فجوة الدخل بين أعلى الشرائح الاجتماعية في المدينة وأدناها هي الأوسع بين المدن الأميركية الكبرى، ما جعل قضية العدالة الاقتصادية محورا رئيسيا في الحملات الانتخابية الأخيرة. وتعتمد آلية عمل الاقتصاد المحلي على قدرة المدينة على تحصيل الضرائب وتحفيز الاستثمار في الوقت نفسه. فالضرائب العقارية تعد المصدر الأكبر لإيراداتها، تليها الضرائب على الرواتب والشركات.
غير أن هذه الإيرادات ترتبط ارتباطا وثيقا بديناميكية السوق العقارية والأنشطة المالية، ما يجعل ميزانية المدينة حساسة لأي تقلب في أسواق المال أو قرارات الفائدة الصادرة عن الاحتياطي الفيدرالي. وتظهر تقارير مالية أن أي تراجع بنسبة واحد في المئة في سوق العقارات يؤدي إلى انخفاض مباشر في الإيرادات الضريبية بمئات ملايين الدولارات سنويا. في المقابل، تبقى القوة العاملة المتنوعة التي تضم أكثر من أربعة ملايين موظف أحد عناصر الصمود الأساسية، إذ ما زالت المدينة، رغم موجات الهجرة الداخلية والخارجية، تستقطب الكفاءات في مجالات التكنولوجيا والإعلام والتمويل والطب والتعليم العالي، ما يمنحها قدرة دائمة على تجديد نفسها اقتصاديا. غير أن ارتفاع تكاليف المعيشة يدفع شريحة من الشباب إلى مغادرتها نحو ولايات أقل تكلفة مثل تكساس وفلوريدا، وهو ما بدأ يثير قلقا حقيقيا بشأن مستقبل سوق العمل ونمط النمو الحضري في العقد المقبل.
"الاشتراكية النيويوركية"
وبينما يجمع الخبراء على أن قوة نيويورك تكمن في قدرتها على امتصاص الصدمات وإعادة الهيكلة، فإن المرحلة الحالية تطرح سؤالا مختلفا: هل يمكن لمدينة بهذا التعقيد الاقتصادي أن تتأقلم مع رؤية اشتراكية - ديمقراطية يقودها عمدة مثل زهران ممداني؟ أم أن مقاومة مصالح المال والعقار ستعيد ضبط حدود الممكن في تجربة حكمه؟
ويرى خبراء الاقتصاد أن قوة نيويورك لم تكن يوما في حجم ثروتها فحسب، بل في قدرتها المؤسسية على امتصاص الصدمات وإعادة الهيكلة دون انهيار الأسواق. وهذا ما تجلى في فترات الركود الكبرى، من أزمة 2008 إلى جائحة كورونا، حين تمكنت المدينة من الحفاظ على مركزها المالي العالمي عبر آليات مرنة في سوق العمل والضرائب. لكن صعود عمدة ذي توجه اشتراكي ديمقراطي مثل زهران ممداني يضع هذه المرونة أمام اختبار جديد. وبحسب تقرير لرويترز في 25 يونيو/حزيران الماضي، فقد تراجعت أسهم بنوك عقارية رئيسية مثل فلاجستار ودايم كوميونيتي بانكشيرز وفورنادو ريالتي تراست بنسب تراوحت بين 3 و5%، فور تقدم ممداني في الانتخابات التمهيدية، نتيجة مخاوف من سياسة تجميد الإيجارات التي تعهد بها، والتي قد تحد من قدرة الملاك على خدمة ديونهم في ظل ارتفاع تكاليف التمويل. ومع ذلك، أوضحت الوكالة نفسها أن "بنك أوف أمريكا" قدر أن الأثر الفعلي على المديين القصير والمتوسط سيكون محدودا إذا نفذت الإجراءات تدريجيا ورافقها دعم بلدي مخصص للصيانة.
ونقلت بلومبيرغ في تقرير لها، اليوم الأربعاء، تحول موقف وول ستريت من الخوف من صيف شيوعي ساخن إلى "التكيف البراغماتي"، حيث وجه كبار المستثمرين مثل رالف شلوسستاين وجيمي ديمون وجين فريزر دعوات للتعاون مع العمدة الجديد، معتبرين أن معالجة أزمة الإسكان والغلاء أصبحت مسألة واقعية وليست أيديولوجية. وأكدت الوكالة أن قادة المال أدركوا أن تكلفة الصدام مع بلدية نيويورك أعلى من تكلفة التفاهم، خصوصا وأن المدينة تمثل أكثر من 6% من الناتج القومي الأميركي. وفي ضوء ذلك، يميل معظم الخبراء إلى أن مقاومة مصالح المال والعقار لن تكون شاملة بقدر ما ستكون مفاوضة على التفاصيل. فالمدينة، بحكم عمق مؤسساتها المالية، تملك قدرة على تحييد الصدام عبر آليات استيعاب تدريجية، مثل السماح بتجميد الإيجارات في الشقق الخاضعة للتنظيم مقابل تعويضات ضريبية للمطورين، أو ربط الإنفاق الاجتماعي بمؤشرات إنتاجية واضحة للمشروعات الصغيرة. وهكذا تتحول رؤية ممداني الاشتراكية - الديمقراطية إلى إصلاحٍ توزيعي قابل للحياة داخل نظام السوق نفسه، لا خارجه. وهو جوهر "الاشتراكية النيويوركية" الجديدة كما تصفها "بلومبيرغ".
تحديات العام الأول
يدخل ممداني عامه الأول في منصب عمدة نيويورك وسط توازن دقيق بين وعوده الاجتماعية الكبرى والقيود المالية الصارمة للمدينة. فبحسب تقرير مكتب مراقب الولاية الصادر في فبراير 2025، لا يتجاوز الفائض المتوقع في الموازنة 2.3 مليار دولار، في حين تقدر كلفة البرامج التي تعهد بها (مثل توسيع النقل المجاني، وتجميد الإيجارات، ودعم الغذاء والإسكان) بما بين 8 و10 مليارات دولار خلال عام واحد فقط. وتشير النشرة المالية لمكتب مراقب المدينة لشهر يوليو/تموز 2025 إلى أن إيرادات الضرائب على الشركات تراجعت بنسبة 4% مقارنة بالعام السابق، وهو ما يحد من قدرة نيويورك على تمويل الإنفاق الجديد دون رفع الضرائب أو تقليص بنود قائمة.
وعلى صعيد الإسكان أظهرت بيانات "مجلس تنظيم الإيجارات" في نيويورك لعام 2025، أن أكثر من 900 ألف أسرة يعيشون في شقق خاضعة للتنظيم، بينما يبلغ متوسط الإيجار في مانهاتن أكثر من 4500 دولار شهريا، أي أن 42% من الأسر تنفق أكثر من ثلث دخلها على السكن. وهذه الأرقام تفسر التأييد الشعبي الواسع لسياسة ممداني، لكنها تطرح تساؤلات جدية حول قدرة الملاك على الصيانة والتمويل في ظل تراجع العائدات العقارية، ما قد ينعكس سلبا على جودة المساكن وعلى إيرادات الضرائب التي تشكل نحو ثلث موازنة المدينة. وفي سوق العمل، تظهر تقارير مكتب مراقب المدينة أن معدل البطالة بلغ 5.5% بنهاية عام 2024، وهو الأعلى منذ ما قبل الجائحة. ويرى خبراء في مؤسسة التنمية الاقتصادية للمدينة أن أي زيادة في الحد الأدنى للأجور (كما وعد ممداني) يجب أن ترافقها حوافز ضريبية للمشروعات الصغيرة وبرامج تدريب للعمالة منخفضة المهارة، حتى لا يتحول الإجراء إلى عبء على أصحاب الأعمال أو سبب لتراجع التوظيف.
وبحسب تقرير "نيويورك بالأرقام" لشهر يوليو/تموز 2025، بلغ إجمالي الإيرادات الضريبية 105 مليارات دولار، منها 33 مليارا من الضرائب العقارية وحدها، ما يجعل المدينة شديدة الحساسية لأي تغير في سوق العقارات أو في عوائد الإيجارات. لهذا يحذر اقتصاديون من أن تبني سياسات توسعية غير ممولة قد يؤدي إلى عجز يفوق 5 مليارات دولار سنويا خلال ثلاث سنوات، إذا لم تترافق مع نمو في الإيرادات. وأشارت "بلومبيرغ" إلى أن ممداني - رغم خطابه اليساري - يدرك أنه يدير العاصمة المالية للعالم، وأن مصداقيته ستقاس بقدرته على تحقيق العدالة الاجتماعية دون الإضرار بجاذبية الاستثمار. فالمدينة، بحسب الوكالة، لا يمكن أن تتحمل تجربة اقتصادية تقوم على الصدام، بل تحتاج إلى صيغة توازن بين كلفة المعيشة والاستثمار، تحفظ قوتها المالية ومكانتها العالمية في آن واحد.