معضلة الغاز الإسرائيلي مع الاقتصاد والجغرافيا والأمن

12 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 04:18 (توقيت القدس)
احتجاجات ضد الغاز الإسرائيلي في الأردن 18-11-2016 (العربي الجديد)
+ الخط -

استمع إلى الملخص

اظهر الملخص
- اكتشفت إسرائيل موارد الغاز والبترول بعد خمسين عامًا من البحث، مع اكتشافات حقل تمار في 2009 وحقل ليفياثان في 2010، مما حولها إلى لاعب رئيسي في مجال الطاقة رغم التحديات الجغرافية والسياسية.

- خططت إسرائيل لتصدير الغاز إلى أوروبا عبر خط أنابيب إيست ميد، لكن انسحاب الولايات المتحدة من دعمه في 2022 أوقف المشروع، مما جعل تصدير الغاز تحديًا مستمرًا بسبب البدائل المكلفة والمخاطر الأمنية.

- اتجهت إسرائيل لتصدير الغاز إلى دول الجوار مثل الأردن ومصر، مما عزز اقتصادها وأكد مكانتها كقوة إقليمية في مجال الطاقة، رغم الاحتجاجات الشعبية في بعض الدول.

 استمرت إسرائيل في التنقيب عن البترول والغاز في البر والبحر لمدة 50 عاماً دون جدوى، رغم وجودها في محيط عربي يعوم على بحار من النفط والغاز. ورغم أنها متقدمة تكنولوجيا، تعاني منذ نشأتها في سنة 1948 من الاعتماد على الفحم ومنتجات البترول المستورد.

وفي سنة 1999، أعلنت إسرائيل عن اكتشاف متواضع للغاز في حقلي نوح وماري بي قبالة سواحل أسدود. وبعد 10 سنوات أخرى، أعلنت عن اكتشاف أكبر آبار الغاز الطبيعي في مياه البحر المتوسط. في يناير/ كانون الثاني 2009، أعلنت عن اكتشاف حقل تمار، الذي يحوي نحو 300 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وهو يكفي لتلبية احتياجات إسرائيل المحلية من الغاز لمدة خمسة عشر عاماً. وهو أقرب للمنطقة الاقتصادية للبنان في المياه الدولية منه لإسرائيل.

وفي ديسمبر/ كانون الأول 2010، أعلنت عن اكتشاف أكبر من "تمار"، هو حقل ليفياثان ويحوي نحو 600 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، باستثمارات تجاوزت أربعة مليارات دولار للتشغيل. اكتشاف ليفياثان حوّل إسرائيل من مستورد للطاقة إلى لاعب رئيسي محتمل في المنطقة، بغض الطرف عن وقوعه في مياه مصر الاقتصادية وفق بعض الدراسات.

وفي سنة 2013، أعلنت إسرائيل عن اكتشاف حقل كاريش ويحوي 100 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، وبغض النظر عن وجوده هو الآخر في المطقة الاقتصادية اللبنانية. وبفضل هذه الحقول، أصبحت إسرائيل مصدراً للغاز الطبيعي اعتباراً من مطلع عام 2017، بعد أن كانت تستورد 40% من احتياجاتها من الغاز من مصر منذ سنة 2005 باتفاقية أثارت غضب المصريين.

هذه الثروة الغازية، ستدر على الكيان أرباحاً لم تتوقعها حكومته. وفق موقع تايمز أوف إسرائيل في يناير الماضي، توقعت سلطة الضرائب الإسرائيلية تحصيل ما بين 57 و74 مليار دولار من ضرائب أرباح الغاز والنفط خلال العقد المقبل.

في هذا التوقيت، كانت المعضلة الكبيرة أمام الحكومة الإسرائيلية هي كيف نصدر الغاز لنستفيد من هذه الثروة غير المتوقعة، أو المنهوبة؟! طريقتان لتصدير الغاز من إسرائيل أوروبا هي الوجهة المثالية والسوق الكبير لصادرات الغاز الطبيعي من إسرائيل. وظل تصدير الغاز من إسرائيل إلى أوروبا عبر خط أنابيب إيست ميد حلماً يراود رئيس الوزراء، بنيامين نتنياهو منذ 2010.

في سبتمبر/ أيلول 2012، كتب خبير الطاقة البريطاني سايمون هندرسون، وهو كبير الباحثين في برنامج جيمس بيكر ومدير برنامج برنشتاين لشؤون الخليج وسياسة الطاقة في معهد واشنطن وزميل مركز دايان في جامعة تل أبيب، مقالاً بعنوان "تحديات الغاز الطبيعي في إسرائيل"، قال فيه إن هناك طريقتين لتصدير الغاز الطبيعي لأوروبا، إما عبر خط أنابيب وهو الأرخص أو عبر الناقلات بعد إسالة الغاز بالتبريد وتحويله إلى سائل، وهي الأكثر كلفة، وتحتاج استثمارات بمليارات الدولارات.

الوجهة الأكثر سهولة لخط الأنابيب تعترضها إشكاليتان، فهي إما تكون عن طريق تركيا، أو اليونان وإيطاليا مروراً بقبرص. الوجهة التركية أقل تكلفة، في حدود 1.5 مليار دولار. وقبيل "طوفان الأقصى"، أصدر نتنياهو تعليماته لفريق من حكومته لدراسة مد خط أنابيب تحت البحر من حقل ليفياثان إلى تركيا ومنه إلى أوروبا.

وكان من أهداف نتنياهو، أن تكون إسرائيل مركزاً لنقل غاز الإمارات وبعض دول الخليج لأوروباولكن بعد "الطوفان"، سرعان ما دخلت الدولتان في عداء ديبلوماسي، وطلبت تركيا وقف المفاوضات الخاصة بالتعاون في مجال الطاقة، وتبخر حلم نتنياهو.

حلم التصدير لأوروبا عن طريق الأنابيب بعد مفاوضات تسع سنوات، وقعت قبرص واليونان وإسرائيل اتفاقاً لإنشاء خط أنابيب شرق المتوسط، إيست ميد، لمد أوروبا بالغاز. وصف نتنياهو الاتفاق بأنه تاريخي لإسرائيل التي باتت واعدة جداً في الطاقة. وصنف الاتحاد الأوروبي خط الأنابيب مشروعاً ذا مصلحة مشتركة مع إسرائيل، وبديلاً لاعتماد الاتحاد الأوروبي على الطاقة الروسية.

وباركت الولايات المتحدة خط الأنابيب، وكان من المتوقع أن يبدأ تشغيل خط الأنابيب بحلول عام 2025، بتكلفة قال الرئيس الشركة المشرفة على تطوير المشروع، إيليو روجيري، إنها ستبلغ 5.2 مليار يورو حتى اليونان، و6.2 مليارات يورو لإيطاليا. وهي أعلى بكثير من الخط المار بدولة تركيا، ولكنها تكلفة الجغرافيا غير المواتية. المفاجأة غير المتوقعة في بداية يناير 2022، أن الولايات المتحدة سحبت دعمها لخط الأنابيب، وبررت إدارة الرئيس السابق جو بايدن موقفها الجديد بمخاوف اقتصادية وبيئية. وشكك كبير مستشاري وزارة الخارجية الأميركية لأمن الطاقة العالمي، عاموس هوكشتاين، في الجدوى الاقتصادية للمشروع، حتى أنه وصف المشروع بالحلم، دلالة على استحالته.

واعتبر إنشاء الخط في قاع البحر وصيانته مكلفاً، وغير مجد اقتصادياً، وأن تراجع أسعار الغاز سيقلل ربحيته، وأن حجم الغاز المتوفر لا يكفي لتشغيل الأنبوب لمدة طويلة. في عالم المصالح، ربما اتخذت إدارة بايدن هذا القرار لصالح تصدير الغاز الأميركي لأوروبا. وقال خبير الطاقة البريطاني سايمون هندرسون إن انسحاب الولايات المتحدة قضى فعلياً على حلم إسرائيل الوهمي في أن تصبح مزوداً مهماً للغاز إلى أوروبا.

بدائل خط الأنابيب الأوروبي بناء محطة إسالة للغاز على شواطئ إسرائيل، هي البديل المتاح بعد توقف خط الأنابيب، رغم أنها تتكلف مليارات الدولارات. وقُدمت بالفعل مقترحات لإنشاء مثل هذه المحطة على ساحل البحر الأبيض المتوسط وعلى ساحل البحر الأحمر الصغير المُجاور لمنتجع إيلات السياحي، ولكن الاعتبارات الأمنية والخوف من قصف المحطة، وكذلك جماعات حماية البيئة والسكان رفضوا المقترح.

في سنة 2012، قال هندرسون إنه في عالم مثالي، يمكن لإسرائيل استخدام محطتي الغاز الطبيعي المسال المصرية، لكن هذا الخيار بدا، من وجهة نظره، مستبعداً سياسياً ومحفوفاً بالمخاطر الدبلوماسية، بسبب العلاقات المتوترة بين البلدين بعد ثورة يناير.

في هذا التوقيت، لم يدر بخلد هندرسون أن إسرائيل سوف تحل أزمتها وتصدر الغاز لمصر بعد سنوات قليلة، وسوف تستخدم محطة إسالة الغاز المصرية في تسييل الغاز الإسرائيلي، ولولا ذلك لمات حلم تصدير الغاز من إسرائيل. اعتبرت الحكومة الإسرائيلية أن إنشاء محطة لإسالة الغاز على شواطئ إسرائيل محفوف بالمخاطر.

فجميع منشآت النفط والغاز صعبة الحماية والتأمين، وغالباً ما تكون عرضة لقذيفة صاروخية واحدة دقيقة التصويب كافية لتدمير المنشأة. لذلك، طلبت البحرية الإسرائيلية في ذاك التوقيت تمويلاً إضافياً كبيراً لتوسيع قدراتها العسكرية لتأمين مشروعات منشآت الغاز الطبيعي البحرية الكبيرة. ومن الأفكار التصديرية الأخرى التي درستها الحكومة الإسرائيلية في هذا التوقيت، إرساء منشأة عائمة للغاز الطبيعي المسال فوق حقل ليفياثان، لكن تكلفتها، والتي تقدر بعدة مليارات من الدولارات، وحجمها الضخم، ما يعادل أربع حاملات طائرات، سيجعلانها كابوساً أمنياً، وفق هندرسون.

في بداية "طوفان الأقصى"، تجلت المعضلة الأمنية على قطاع الغاز في إسرائيل، وأغلقت الحكومة حقل غاز تمار، بسبب قربه من قطاع غزة. وأدى هذا الإغلاق إلى انخفاض صادرات الغاز الطبيعي بنسبة 70%، أي ما يعادل خسائر بقيمة 200 مليون دولار شهرياً تقريباً. وبعد الهجوم على إيران في يونيو/ حزيران الماضي وقصفها حقل بارس للغاز، أوقفت إسرائيل العمل في حقلي ليفياثان وكاريش وتوقف ضخ الغاز لمصر والأردن لمدة أسبوعين، وقدرت الشركات المشغلة للحقلين الخسائر في الإيرادات بنحو 12 مليون دولار، وأعلنوا عن دراسة إمكانية المطالبة بالحصول على تعويض من الدولة بسبب توقف الإنتاج.

ما يؤكد أن الأمن سيظل نقطة حرجة وثغرة مهددة لنمو قطاع الغاز في إسرائيل. قبلة حياة عربية لغاز إسرائيل لم يكن أمام إسرائيل إلا أن تصدر الغاز لدول الجوار، الأردن ومصر. وبالفعل، كانت الأردن أول دولة تتعاقد على شراء غاز ليفياثان من إسرائيل في سنة 2015 بقيمة 10 مليارات دولار على مدى 15 عاماً. أثارت الصفقة موجة من الاحتجاجات الشعبية في الأردن، ورفضها البرلمان ولكن الحكومة لم تعره اهتماماً. وبطريقة مشابهة، وقعت شركة مصرية اتفاقية في سنة 2018 بقيمة 15 مليار دولار لاستيراد الغاز من إسرائيل على مدى 10 سنوات، واعتبرها نتنياهو صفقة تاريخية ويوم عيد لإسرائيل.

ومؤخراً، أعلنت إسرائيل عن توقيع صفقة بقيمة 35 مليار دولار لتصدير الغاز إلى مصر حتى عام 2040. وعلق وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين في منشور على مواقع التواصل الاجتماعي على الصفقة بقوله إن توقيع أكبر صفقة غاز في التاريخ خبر هام من الناحية الأمنية السياسية، وكذلك من الناحية الاقتصادية، وإنه يرسخ مكانة إسرائيل قوةً إقليميةً رائدة في مجال الطاقة يعتمد عليها جيراننا ويحتاجون إليها، كما أنه خبر سار للاقتصاد الإسرائيلي سيجلب مليارات الدولارات إلى خزينة الدولة، ويوفر فرص عمل، ويعزز اقتصاد إسرائيل. وهكذا نجح نتنياهو الذي يرتكب الإبادة والتجويع في غزة في إنقاذ الاقتصاد الإسرائيلي الذي يتكبد خسائر اقتصادية وسياسية بتصدير الغاز لدولتين عربيتين.