استمع إلى الملخص
- أعلن الرئيس الفرنسي عن دعم مالي لسوريا ودعا لدمج قوات سوريا الديمقراطية في الانتقال السياسي، مع استعداد الاتحاد الأوروبي للمشاركة في إعادة الإعمار، وتأجيل جمع الأموال لمؤتمر بروكسل.
- توقفت المساعدات الأمريكية لسوريا بقرار من ترامب، مما أثر على التعافي والاستقرار الإقليمي، رغم أهمية دعم سوريا لتحسين العلاقات وعودة اللاجئين.
في 13 فبراير/ شباط 2025، انعقد في العاصمة الفرنسية باريس مؤتمر دولي هو الثالث من نوعه، بشأن الانتقال السياسي والتحدِّيات الأمنية والاقتصادية الجمّة التي تواجهها سورية، منذ الإطاحة بنظام بشار الأسد في 8 ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي بعد مؤتمرَي العقبة والرياض، وحضره وزير الخارجية السوري أسعد الشيباني، كما شارك فيه ممثِّلون من عشرين دولة من بينها مجموعة السبع الكبار ودول عربية. في الواقع، ينطبق المثل العربي القديم "تمخَّض الجبل، فولد فأراً" في مدلوله العام على حوار باريس العقيم الذي عكس بوضوح همّ القوى الكبرى الوحيد المتمثِّل في عدم بقاء سورية ملاذاً للتنظيمات الإرهابية والجماعات الإيرانية التي تهدِّد بشكل مباشر أمن جارتها إسرائيل.
بدلاً من الإعلان عن الرفع الفوري للعقوبات الغربية المفروضة على سورية، والسماح بتدفُّق المساعدات الإنسانية، وتسهيل التدفُّقات المالية لإعادة إعمار البلاد وتشجيع الاستثمار فيها، راح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يؤكِّد أن بلاده ستقدِّم خمسين مليون يورو (52.5 مليون دولار) لدعم جهود الاستقرار في سورية، وضمان عدم قدرة الجماعات الإرهابية على خلق ملاذٍ آمن لها مجدَّداً في الأراضي السورية، ودعا الحكومة السورية الجديدة إلى الدمج الكامل لقوّات سوريا الديمقراطية، التي يقودها الأكراد وتدعمها الولايات المتّحدة، في عملية الانتقال السورية.
من جهته، استرسل وزير الخارجية الفرنسي جان نويل بارو في التذكير مرّة أخرى بأنّ الاتّحاد الأوروبي خصَّص ما يزيد عن 35 مليار يورو (36.7 مليار دولار) منذ عام 2011 من أجل سورية والدول المجاورة لها، شكلاً من أشكال التمنين قبل أن ينمِّق أسلوبه ويبدي استعداد الاتّحاد للمشاركة في جهود إعادة إعمار سورية ومساعدة شعبها، وتسهيل عودة اللاجئين السوريين إليها.
تمثّل الهدف الرئيسي لمؤتمر باريس في إعادة فتح قنوات التواصل مع الإدارة السورية الجديدة، من أجل الحصول على ضمانات تتعلَّق بالدرجة الأولى بالتعاون مع التحالف الذي تقوده الولايات المتّحدة لمحاربة الجماعات المتطرِّفة في منطقة الشرق الأوسط المشتعلة والمؤرِّقة للكيان الصهيوني، لا سيَّما في ظلّ عدم اليقين بشأن التزام الولايات المتّحدة بالمنطقة ومستقبل الدعم العسكري الأميركي فيها.
من الواضح أنّ الاتّحاد الأوروبي يتَّبع نهج "خطوة بخطوة" لرفع العقوبات عن سورية، وسيلةَ ضغطٍ لضمان تلبية الحكومة السورية الجديدة للشروط كافة، ونلحظُ أن مؤتمر باريس لم يقترب صوب مناقشة جمع الأموال اللاّزمة لإعادة إعمار سورية، تاركاً هذه المهمّة لمؤتمر المانحين السنوي الذي سيُعقَد في بروكسل في مارس/ آذار المقبل. ويبدو أيضاً أنّ الرفع التامّ للعقوبات قد جرى ترحيله هو الآخر لجدول أعمال مؤتمر بروكسل الذي تتربَّص به العراقيل التي تنثرها معارضة قبرص واليونان، وسط مخاوف جدِّية بشأن محادثات ترسيم الحدود البحرية بين سورية وتركيا.
بحسب تقديرات الأمم المتّحدة، تُقدَّر تكلفة إعادة إعمار سورية بـ 250 مليار دولار على الأقلّ، بينما يفيد خبراء آخرون بأنّ الرقم الحقيقي قد يصل الآن إلى 400 مليار دولار على أقلّ تقدير. ولكي تزداد الأمور سوءاً، أوقفت إدارة ترامب المساعدات الخارجية الأميركية الشهر الماضي، الأمر الذي أدَّى إلى تجفيف المساعدات عن سورية التي يوجد فيها حالياً عدد قليل من القطاعات الإنتاجية، ويكسب موظفوها الحكوميون أجوراً تعادل حوالى عشرين دولاراً شهرياً.
وفقاً لبيان صحافي صادر عن وزارة الخارجية الأميركية، يهدف هذا التجميد إلى جعل المساعدات الخارجية فعَّالة ومتَّسقة مع السياسة الخارجية الأميركية بموجب أجندة أميركا أوّلاً، فبعد أن منحت إدارة جو بايدن في أسابيعها الأخيرة تخفيفاً محدوداً من العقوبات لسورية مدّةَ ستّة أشهر من خلال وزارة الخزانة الأميركية، بهدف تسهيل تقديم الخدمات العامة والمساعدات الإنسانية، جاء قرار الرئيس دونالد ترامب ليعرِّض كلّ فرص التعافي الهشّ لسورية إلى الخطر.
من المعلوم أنّ الولايات المتّحدة هي أكبر جهة مانحة للمساعدات الأجنبية لسورية، فقد ساهمت بأكثر من 18 مليار دولار في المساعدات الإنسانية منذ عام 2011، بما في ذلك 1.2 مليار دولار في عام 2024. وكما كان متوقَّعاً، قام السمسار الذي تولَّى سدّة الحكم في البيت الأبيض بوضع حدٍّ لكل تلك المساعدات التي يرى أنّ بلاده غير مسؤولة عن منحها، في ظلّ وجود ما يكفي من الأموال في دول الخليج العربي.
وهذا الإجراء كان مرتقباً من الملياردير الدوغمائي المقتنع قطعياً في الأصل بأنّ بلاده، التي دعمت جيش الاحتلال الصهيوني بالأسلحة، غير مسؤولة حتّى عن إعادة إعمار غزة، ومن سابع المستحيلات أن يسمح الغوغائي المهووس بالصفقات الذي يسير بعقائدية الأخذ دون العطاء أن تستمرّ بلاده في منح المساعدات لبلاد ما زالت جسراً برِّياً محتملاً للوكلاء الإيرانيين ورقعة شطرنج للتدخُّلات الأجنبية التي قد تتعارض مع المصالح الأميركية.
لا يمكن لسياسات العربدة وليّ الذراع التي ينتهجها الرئيس ترامب أن تُخرج سورية إلى برّ الاستقرار، فمن جهة يرغب ترامب بألّا تتحوّل سورية مجدّداً إلى تهديد إرهابي للكيان الصهيوني، لكنّه يقطع عنها المساعدات من جهة أخرى، وكأنّه ينهى عن الشيء ويأتي بمثله.
مشكلة ترامب أنّه لا يؤمن باستراتيجية القوّة الناعمة التي لعبت فيها الوكالة الأميركية للتنمية الدولية دوراً محورياً على مدى عقود عدّة؛ فبمجرَّد أن وطَأت قدماه المكتب البيضاوي، شرع بتنفيذ إجراءات فعليّة لتفكيك هذه الوكالة ومنح موظّفيها إجازة، ضارباً بعرض الحائط التحذيرات بشأن تشويه سمعة أميركا بين الحلفاء والمنظّمات الدولية، والإضرار بسخائها والتزامها بالقضايا الإنسانية والاستقرار العالمي وتعزيز الديمقراطية.
خلاصة القول، إنّه بالرغم من أنّ مصلحة الأمن القومي للولايات المتّحدة وشركائها تكمن في مساعدة سورية، التي تمرّ بمرحلة حرجة في تاريخها، على التعافي، تمهيداً لبدء عملية تحسين العلاقات الأميركية-السورية، وتسهيل عودة اللاجئين والنازحين السوريين في جميع أنحاء العالم، وضمان الاستقرار الإقليمي، فإنّ البلطجة الأميركية، التي يقودها الرئيس ترامب الذي يبدو بدوره أنّه يتسابق مع نتنياهو على من هو الأكثر ولاءً للفكر الصهيوني المتطرِّف، هي التي تطغى حالياً على ملامح السياسة الخارجية للولايات المتحدة.