ليس بالأموال الساخنة تُبنى الأوطان

ليس بالأموال الساخنة تُبنى الأوطان

04 يوليو 2022
القروض لا تصلح لتمويل مشروعات طرق وكباري وصرف صحي يمكن تمويلها بقروض محلية (Getty)
+ الخط -

هناك خمسة أمور يجب النظر إليها بجدية عندما نناقش كيفية التغلب على المخاطر التي تحيط حالياً بالاقتصاد المصري، ومعالجة الأزمات المعيشية التي يمر بها المواطن من غلاء وتآكل القدرة الشرائية وضعف فرص العمل وغيرها.

الأمر الأول هو أنّه ليس بالأموال الساخنة تُبنى الاقتصادات الوطنية، فهذه الأموال "انتهازية" سريعة الحركة كما قلت في مقالات سابقة تبحث عن الربح السريع، ولا يهمها مصلحة الأسواق والاقتصادات التي تستثمر بها من قريب أو بعيد، بل يهمها اقتناص الفرص وحصد الأرباح والأموال السريعة والهروب عند حدوث أي خطر، أو عند وجود فرص استثمار أفضل في بلد آخر.

وهذا ما رأيناه خلال الأسابيع الماضية، فقد هربت من مصر أموال ساخنة بقيمة 20 مليار دولار خلال الربع الأول من العام الجاري حسب تقديرات مصطفى مدبولي رئيس الوزراء.

بل إنّ وزير المالية محمد معيط أكد قبل أيام خروج 55 مليار دولار من الأموال الساخنة من مصر خلال 4 سنوات، بسبب عدد من الأزمات المحلية والخارجية.

ولنا أن نتخيل حجم وعدد الصدمات التي تعرض لها الاقتصاد المصري وهزات سوق الصرف وتراجع قيمة الجنيه مقابل الدولار مع دخول وخروج هذا الكم من النقد الأجنبي الساخن الذي يتسم بعدم الاستقرار.

وبالتالي فإنّ على الحكومة المصرية أن تعي هذا الدرس جيداً، وألّا تعتمد مرة أخرى على هذه الأموال الساخنة في تمويل أنشطة اقتصادية وتغذية الاحتياطي الأجنبي لدى البنك المركزي، وسد عجز الموازنة العامة، ودعم سعر الجنيه واستقرار سوق الصرف.

كما أن عليها أن تعترف أن تحويل هذه الأموال "الانتهازية" إلى استثمارات مباشرة في مشروعات إنتاجية هو نوع من الخيال والمراهقة الاقتصادية، إذ إن هذا الأمر لم يحدث في أي دولة من قبل مع طبيعة هذه الأموال ونوعية أصحابها من قناصي الصفقات.

وزير المالية محمد معيط أكد قبل أيام خروج 55 مليار دولار من الأموال الساخنة من مصر خلال 4 سنوات

الأمر الثاني هو أن القروض الخارجية لا تبني اقتصادات وطنية، ولا تصلح لتمويل مشروعات قصيرة الأجل، وأن القروض الدولارية لا تصلح لتمويل استثمارات لا تدر عائداً دولارياً يوجه لسداد أعباء وأصل الدين.

وبالتالي فإن تلك القروض لا تصلح لتمويل مشروعات طرق وكباري وصرف صحي يمكن تمويلها بقروض محلية، بل تصلح لتمويل مشروعات متخصصة في أنشطة السياحة والصناعة والزراعة والتصدير، وهي المشروعات التي يمكن أن تدر عائداً بالدولار يوجه لسداد أعباء تلك الديون.

الأمر الثالث هو أن الاستثمار المباشر وحده القادر على حل مشكلات وأزمات الاقتصاد المصري المختلفة من بطالة وعجز الموازنة العامة، وعجز الميزان التجاري وغيرها من الأزمات.

وبالتالي فإن التركيز يجب أن يكون على جذب استثمارات أجنبية مباشرة للاستثمار في قطاعات إنتاجية وليس بيع أصول الدولة كما يحدث حالياً، ولنا عودة للحديث عن هذه النقطة في ظل المنافسة الخليجية الشرسة على شراء أصول مصرية بقيمة 40 مليار دولار من المقرر أن يتم بيعها خلال السنوات الأربع المقبلة.

الأمر الرابع هو أنه حان الوقت لإعطاء أولوية قصوى لإيجاد بدائل للسلع المستوردة من الخارج التي تستنزف احتياطي البلاد من النقد الأجنبي، وأعني هنا القمح والذرة والأرز والسكر والزيوت والأدوية وغيرها، فمصر تستورد أغذية بقيمة 15 مليار دولار سنوياً.

وهذا الرقم مرشح للزيادة وبقوة مع استمرار الحرب في أوكرانيا وتراجع صادرات البلدين المتحاربين من القمح والحبوب، وهناك قفزات أيضاً في أسعار الوقود والمشتقات البترولية والمواد الخام والسلع الوسيطة.

صحيح أنّ الحكومة وجدت هذه المرة من يقرضها 6.5 مليارات دولار خلال الأسابيع الماضية لتمويل شراء أغذية ووقود، منها 6 مليارات دولار من البنك الإسلامي للتنمية و500 مليون دولار من البنك الدولي. كما تلقت تبرعات ودعم نقدي من جهات أخرى منها الاتحاد الأوروبي الذي منح مصر دعما بقيمة 100 مليون يورو لتمويل شراء أغذية.

الحكومة وجدت هذه المرة من يقرضها 6.5 مليارات دولار خلال الأسابيع الماضية لتمويل شراء أغذية ووقود

لكن السؤال: هل ستجد الحكومة من يوفر لها هذه السيولة النقدية الضخمة في حال حدوث حرب مقبلة وأزمة أخرى تعطل تدفقات الحبوب من الأسواق العالمية، وتؤدي إلى حدوث قفزة في سعر القمح والذرة والسكر وغيرها من السلع الغذائية، ومن أين سيتم سداد كلّ هذه المليارات أصلاً؟

الأمر الخامس هو أنّ الاستثمار في العنصر البشري أهم مائة مرة من الاستثمار في الحجر، سواء كان طرقاً أو كباري أو مدناً جديدة وأبراجاً شاهقة، وأنّ الاهتمام بالقطاعات المتعلقة بالمواطن من صحة وتعليم ومياه شرب وغيرها، أجدى للاقتصاد من إقامة كباري في مناطق نائية، ومد خط سكك حديد يخدم الطبقة الفارهة.

هذه نقاط جوهرية يجب على الحكومة المصرية أن تضعها أمامها إذا ما أرادت إصلاحاً اقتصادياً حقيقياً، أو أدارت حواراً حقيقياً حول مستقبل الاقتصاد المحلي في ظلّ تصاعد موجات التضخم العالمية وقفزات الأسعار والمخاطر المتوقعة من قفزة سعر الفائدة على الدولار.

المساهمون