استمع إلى الملخص
- تحولات في السياسات الاقتصادية التركية: استجابت تركيا للتحديات الاقتصادية بتعديل سياساتها، مثل رفع أسعار الفائدة وزيادة الاقتراض، لتحقيق أهداف البرنامج الاقتصادي لوزير المالية محمد شيمشك.
- دور وكالات التصنيف الائتماني وتأثيرها السياسي: تحتكر وكالات أميركية كبرى مثل "موديز" و"ستاندرد أند بورز" التصنيف الائتماني، مما يؤثر على سمعة الدول الاقتصادية وقدرتها على جذب الاستثمارات، كما في حالة تركيا.
لتركيا حكاية طويلة مع وكالات التصنيف الائتماني الأميركية العالمية، فهي من اكتوت بنيران التصنيف غير مرة، ودفعت الثمن من تشويه سمعتها الاقتصادية واستقرار عملتها وهروب بعض الرساميل والاستثمارات، إن بعد الانقلاب الفاشل عام 2016 أو خلال الخلاف السياسي بين الرئيسين دونالد ترامب ورجب طيب أردوغان عام 2018، على خلفية محاكمة أنقرة للقس الأميركي أندرو برونسون واتهامه بالتجسس ومساعدة منظمة إرهابية. ولما يغب عن بال الأتراك أيّما أثمان دفعوا وقتذاك، حين خفضت وكالتا "موديز" و"ستاندرد أند بورز" التصنيف الائتماني وغيرتا نظرتهما المستقبلية للاقتصاد التركي من مستقرة إلى سلبية. لتتراجع العملة التركية نحو 40% من قيمتها في العام 2018، ويقفز معدل التضخم إلى 15%، وتستمر معاناة تركيا مع التضخم والعملة الرخيصة حتى يومنا هذا.
وإن لم نقل على الأرجح، فإن تلك الأثمان دفعت تركيا للتحول، بسياساتها الاقتصادية، سواء ما يتعلق بموقفها من سعر الفائدة التي كانت تصفها بالربوية وتسعى لتصفيرها، لترفعها، كما تتطلب السياسة الجديدة وتقييم وكالات التصنيف، وترفع أسعار حوامل الطاقة مبتعدة، وإن نسبياً، عن الدعم بالداخل ونهجها السابق بالاستثمارات الحكومية، إلى جانب زيادة جرعات الاقتراض من البنك الدولي، لترتفع الديون الخارجية وتزيد أعباء التسديد والفوائد، ملبية بعض المطالب الغربية بهدف عدم التصادم وتحقيق طموحات برنامجها الاقتصادي التي أعلنه الوزير محمد شيمشك، صاحب الخبرة الدولية والتحول الليبرالي والذي بدأ مسيرته المهنية من "وول ستريت" لدى "يو بي إس للأوراق المالية" في نيويورك (1997-1998)، وكبير الاقتصاديين في السفارة الأميركية في أنقرة (1993-1997).
والوزير شيمشك ذاته من رأى، بعد إعلان وكالة موديز رفع التصنيف الائتماني لتركيا من مستوى B1 إلى Ba3، وإبقاء وكالة فيتش على تصنيفها دون تغيير، مع نظرة مستقبلية مستقرة، أن هذا التصنيف "إنجاز" يعكس نجاح السياسات الاقتصادية في تجاوز التحديات، ويؤكد متانة الاقتصاد التركي وقدرته على تحمل الصدمات. طبعاً، إلى جانب ما يجب أن يقال، بعد رفع التصنيف وعدم الإشارة إلى دور السياسة الذي تسبب بالتخفيض بالأمس وبالرفع اليوم، كمضي الحكومة التركية في تنفيذ برنامجها الاقتصادي بحزم، والتركيز على خفض التضخم بشكل مستدام، والحفاظ على عجز الحساب الجاري عند مستويات يمكن تحملها، وتعزيز الانضباط المالي في الموازنة العامة للوصول لمكاسب طويلة الأمد من خلال إصلاحات هيكلية وتقليص مخاطر الائتمان، وتسهيل الوصول إلى التمويل الخارجي، وفتح الباب أمام المزيد من الارتفاعات في التصنيف الائتماني للبلاد.
قصارى القول: يمكن تعريف التصنيف الائتماني بأنه قدرة الدولة، أو حتى المؤسسات، على الحصول على قروض، بالدرجة الأولى ومن ثم القدرة على تسديد الأقساط والفوائد، بالمواعيد المحددة، الأمر الذي يعكس، بالنسبة للدول خاصة، مدى قوة الاقتصاد والاستقرار السياسي وثقة المستثمرين والدول، بتوظيف الأموال أو إقامة الأعمال والتشارك والاتفاقات. أي، بمعنى آخر، يمكن اعتبار التصنيف الائتماني، للشركات والدول، بمثابة إثبات على القدرة على التسديد وقوة الاقتصاد وعدم وجود منازعات أو مخاطر، على أنواعها وبمقدمتها اقتصادية وسياسية. ما يعني ضرورة توفر تصنيف درجة أمان عالية، أو جدارة متوسطة أو على الأقل، مستقر ونظرة إيجابية، كي تتمكن الدول من الحصول على القروض، أو حتى تكسب ثقة من سيتعامل معها ويوظف أمواله داخلها. ليأتي السؤال المهم هنا: من هي شركات التصنيف، ولمن تتبع، وهل يمكن أن تتدخل السياسة وحسن العلاقات بمستوى التصنيف؟!
تحتكر الولايات المتحدة أكبر وأهم وكالات التصنيف الائتماني بالعالم (فيتش، موديز، ستاندرد أند بورز)، ونالت هذه الوكالات الثقة والمصداقية، داخل الولايات المتحدة، وربما فرضها بالخارج، بعد اعتمادها من هيئة الأوراق المالية الأميركية عام 1975. كما لم تنجح الدول الكبرى المنافسة اقتصادياً، سواء الصين التي حاولت منذ ثلاثين عاماً إنشاء وكالة "دادونغ" للتصنيف الائتماني في العام 1994، أو ألمانيا، منذ خمسة عشر عاماً، وقت شككت الدول الأوروبية بتقارير الوكالات بعد الأزمة المالية العالمية عام 2008، لكنهما، الصين وألمانيا، لم تنجحا، أو لم تلق وكالاتهما الثقة والسمعة التي تتمتع بها وكالات الولايات المتحدة الثلاث. كما على الأرجح ستفشل محاولات دول أفريقية عدة، طرحت الشهر الماضي، دعوات لتأسيس وكالات تصنيف ائتماني إقليمية، إثر الشكوك والانتقادات المتزايدة للطريقة التي تتعامل بها الوكالات الثلاث الكبرى، والتي لا تعكس الظروف المحلية، وتؤثر سلباً على كلفة الاقتراض السيادي.
الأمر الذي زاد على قوة الولايات المتحدة، العسكرية والاقتصادية وحتى العلمية والفنية، مطرقة جديدة، يمكنها من خلالها التحكم، وإن نسبياً، بسمعة سيطرة الدول على الاقتصاد وقدراتها المالية واستقرارها السياسي، ما سيزيد أو يحجم من الاستثمارات الخارجية ويؤثر على سعر العملات، عبر التشكيك بعدم القدرة على السداد، أو القدرة وعدم وجود مخاطر.
نهاية القول: لا يمكن، وفق أحداث كثيرة، الحكم على تقارير وتصنيف الوكالات بأنها مؤسسات فنية مهنية مستقلة بالمطلق لا تتأثر بالدولة الحاضنة والمؤسسة على أرضها وبمالها ومحكومة بسياساتها الاستراتيجية، وربما بمثال تخفيض تصنيف تركيا، وقت تأثرت الوكالات بتوتر العلاقة الأميركية التركية عام 2008، وفي العبث بتصنيف الدول الأوروبية حالة أخرى، لتكون الحالة الأفقع حينما أمر الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما وكالة ستاندرد أند بورز بسحب تقريرها عن الاقتصاد الأميركي بعد تخفيض التصنيف وتعديله إلى "إيه إيه إيه"، لتسحب الوكالات التقرير بالفعل وتنصاع لأمر الرئيس. ولكن، وعلى حق التشكيك بحيادية الوكالات المطلقة، تبقى تقارير تصنيفها بمثابة صكوك إدانة أو غفران للدول، خاصة لدولة مثل تركيا تتطلع للخروج من فخ التضخم وأزمة الليرة وجذب الاستثمارات، ولو عبر تغيير وجه وهوية الاقتصاد والعودة للاستدانة، كما رأينا، ما يعني حاجتها الماسة للتصنيف ومبرر فرح وتفاخر وزير المال محمد شيمشك، كما رأينا بالأمس.
والفرح واعتبار تحسّن التصنيف إنجازاً للمشروع الاقتصادي التركي، رغم إمكانية رؤية ملمح مساومة بتقرير "موديز" برفع التصنيف الائتماني لتركيا من مستوى B1 إلى Ba3، والتعليل بتحسن الأداء في السياسات الاقتصادية، وخصوصاً في السياسة النقدية جراء رفع سعر الفائدة إلى 43%، لأن من يتفحّص تصنيف الوكالة، يوم الجمعة الماضي، يراه ومع رفع التصنيف والمديح "قوة التزام صانعي السياسات في تركيا، لا سيما البنك المركزي، بمواجهة الضغوط التضخمية، ومعالجة الاختلالات الاقتصادية، واستعادة الثقة تدريجياً بالليرة التركية من قبل المستثمرين المحليين والأجانب" يرى وعيداً، عبر "الترقية تعكس انخفاضاً في مخاطر العودة إلى سياسات اقتصادية غير تقليدية، رغم استمرار احتمال حدوث ذلك مستقبلاً"، ومحاولة تمرير الحيادية والاستقلالية، عبر ادعاء الموازنة بين المخاطر الصاعدة والهابطة المرتبطة بالتصنيف.. وكأن لا علاقة لحسن العلاقات التركية الأميركية بالأمر، ولا دخل لتبدل نهج تركيا الاقتصادي ومد يدها للمؤسسات المالية وقبول شروطها، بتصنيف "المستقرة".